أبعد من اتفاقيات التطبيع.. مشروع “الولايات المتحدة الإبراهيمية”

كتب – أليف صباغ

دولة فدرالية موعودة أنتجتها مكاتب وزارة الخارجية الأميركية تشمل مجمل الدول العربية وتتعدى الحدود “من النيل إلى الفرات” وغايتها تحقيق الهيمنة الصهيونية من بوابة “الدبلوماسية الروحية”، وما يخفيه “اتفاق أبراهام” تكشفه دراسات يجري العمل عليها منذ سنوات.

مفردات ومصطلحات وتصريحات كثيرة مرَّت في مجرى “صفقة القرن” من دون أن نتوقَّف عندها لفحص مضمونها وما تخفيه من أسرار ونيات. ولا يستطيع الباحث أو المحلل السياسي أن يصل إلى تركيب الصورة الفسيفسائية إلا إذا اعتمد على المعلومات، أو استعان بمجموع القطع المركبة للصورة، فيغربلها ويختار ما يراه مناسباً، ليصل إلى الصورة الواضحة أو معظمها.

 وبما أنَّ المحلّل أو الباحث يعمل وحيداً في عالمنا العربي، من دون طواقم متخصّصة معه وحوله، كما تعمل مراكز الأبحاث الحقيقية، فليس غريباً أن تغيب عنه معلومات أساسية، لا يمكنه من دونها أن يرى الصورة الحقيقية أو يقرأ ما بين سطور التصريحات ومعاني المفردات المستخدمة، وهذا يتطلب جهداً مضاعفاً لفهم ما تخفيه التصريحات والمفردات المستخدمة للدلالة على ماهية “صفقة القرن” والاتفاقيات التي يوقعها الأطراف بين ليلة وضحاها بأسماء مثيرة في البيت الأبيض.

لافت خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبيل التوقيع على الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي و”إعلان السلام” البحريني الإسرائيلي في البيت الأبيض، حين سمّى الاتفاق باسم “اتفاق إبراهام”!؟ كما استوقفني حديثه حين قال في خطابه: “هناك تطلّع إلى المستقبل لدى اليهود والمسلمين والمسيحيين، ليعيشوا مع بعضهم البعض، وليحلموا ويصلّوا مع بعضهم البعض، وجنباً إلى جنب، بانسجام وتناغم وسلام”! وتساءلت: إذا كان الاتفاق بين الإمارات “المسلمة” و”إسرائيل” “اليهودية”، فما دخل المسيحيين؟ وماذا تعني كلمات “أن يُصلّوا مع بعضهم البعض جنباً إلى جنب”؟

اعتقدتُ حينها أنَّه يقصد تقاسم الحرم الإبراهيميّ أو الحرم القدسيّ بين اليهود والمسلمين! ولكن مرة أخرى، ما دخل المسيحيين في ذلك؟ وما دخل الإمارات في تقاسم الحرم القدسي أو الحرم الإبراهيمي؟ خصوصاً أن الاتفاق لا يعترف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بل يقفز عنها عمداً!

هذه التساؤلات أعادتني إلى تصريحات سابقة رافقت “صفقة القرن”، تقول إنها “لا تعني الفلسطينيين وحدهم، بل تعني شعوب الشرق الأوسط كلها في العلاقة مع إسرائيل”، وإلى تصريح جاريد كوشنير بالذات لمحطة “سكاي نيوز” (الإماراتية) يوم 28 شباط/فبراير 2019 بأنّ “صفقة القرن ستلغي الحدود السياسية بين شعوب الشرق الأوسط”. وفي ما بعد، قال: “إنَّ الرئيس ترامب يشجّعنا لتبنّي التوجّه الجديد، ولتوحيد الناس حول القاسم المشترك”، فكيف يكون ذلك؟ ومَن هو أو ما هو القاسم المشترك الذي يوحّد الناس؟

لاحظت أيضاً أنَّ بعض رجال الدين أخذوا يستخدمون مصطلح “الديانات الإبراهيمية الثلاث”، الإسلامية واليهودية والمسيحية! وتذكرتُ أنَّ منظمة غوث اللاجئين الفلسطينيين، “الأونروا”، التي تُعنى بحياة اللاجئين الفلسطينيين، بادرت في العام 2017 إلى تغيير المناهج المدرسية من الصفّ الأول إلى الرابع. ومن ضمن هذه التغييرات الكثيرة، استبدال تعريف القدس في المنهاج الدراسي من “عاصمة الدولة الفلسطينية” إلى “مدينة إبراهيمية مقدّسة للديانات الثلاث”، ألا يوجب كل ذلك التوقف عنده والبحث في ما يستتر وراءه من أفكار أو مقاصد، إن لم يكن مخطَّطات؟ 

كتب الموقع العبري “بِحَدري حريديم ” (غُرف الحريديم) يوم 13 آب/أغسطس 2020، أنَّ تسمية الاتفاق تعود إلى أن “أفرهام”/إبراهيم هو أب الديانات الثلاث الكبرى، ولا يوجد رمز لنجاح اتفاقية السلام بين إسرائيل والإمارات أفضل من شخصيته”. وشدد الموقع على تصريح كوشنر “بالبحث عن القاسم المشترك”.

أما معهد أبحاث الأمن القومي في “إسرائيل”، فقد نشر مقالاً يوم 3 أيلول/سبتمبر 2020 تحت عنوان “الإسلام في خدمة السلام: التداعيات والأسس الدينية لاتفاق أفرهام”، يقول فيه الكاتب: “في الوقت الذي تتجه الأنظار في إسرائيل إلى المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية للاتفاق، هناك اهتمام قليل بما يحمله من تحدّيات في المجال الديني”.

ويضيف أنَّ اتحاد دول مجلس التعاون الخليجيّ أقام مكتباً حكومياً خاصاً في العام 2016، وأعلن عن العام 2019 عام التسامح. وفي هذا السّياق، استضافت الإمارات لقاء قمة بين بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر، اللذين خرجا ببيان مشترك سمي بميثاق “الأخوة الإنسانية”، دعا إلى التّسامح ومناهضة التطرّف والغلوّ. 

ولاحظ الكاتب أن الإمارات تقوم ببناء معبد مشترك للديانات الثلاث سيتم افتتاحه في العام 2022 يُسمى “بيت عائلة إبراهيم”، وهو يشمل كنيساً وكنيسة وجامعاً في قاعة واحدة، مشيراً أن هذا كله له استحقاقات يجب أن تستعد “إسرائيل” لها، فهل هذا ما قصده ترامب بقوله: “يصلون معاً بانسجام جنباً إلى جنب؟”. 

كل هذا لم يكفِ ليستند التحليل بعد إلى حقائق مكتملة. وقد غاب عنا تقرير يتيم نُشر في موقع “الوطن” الإلكتروني يوم 13 آذار/مارس 2018 تحت عنوان ” الدبلوماسية الروحية بوابة تصفية الصراع مع إسرائيل”، تناول فيه الكاتب دراسة أكاديمية للدكتورة المصرية هبة جمال الدين صادرة في العام 2018، تتحدث عن “الدبلوماسية الروحية” التي أُنتِجت في مكاتب وزارة الخارجية الأميركية في ظل الإدارة الديموقراطية (هيلاري كلينتون)، وما تزال هي الدبلوماسية الفاعلة لحل النزاع في الشرق الأوسط في ظل إدارة ترامب.

ومن هذا التّقرير، يمكن الوصول إلى مقابلة تلفزيونية مع الدكتورة جمال الدين في موقع “معرفة” المصري بداية هذا الشهر، تضع فيها النقاط على الحروف، وتستكمل الصورة الفسيفسائية، وتبيّن حقيقة تسمية هذا الاتفاق بـ”اتفاق أفرهام”. 

والأهم من ذلك ما يخفيه هذا الاتفاق من مخطط كبير لإنشاء ما يسمى بـ”الولايات المتحدة الإبراهيمية”، وهي دولة فدرالية موعودة، وفق د. هبة جمال الدين، تشمل مجمل الدول العربية في الشرق الأوسط و”إسرائيل” وإيران وتركيا، وحتى المغرب العربي، أي أنها أكثر اتساعاً حتى من “حدود النيل إلى الفرات”، على أن تكون القيادة الفدرالية لـ”إسرائيل”، وتكسب شرعية ذلك من امتلاكها التكنولوجيا الضرورية لاستخدامها في جهود تطوير الشرق الأوسط، وتساعدها في ذلك تركيا لقدرتها على استيعاب المعارضة الإسلامية الإخوانية، التي قد تعارض القيادة الإسرائيلية للمشروع.

تعتمد د. جمال الدين في دراستها هذه على الوثائق الأميركية الموجودة في جامعات هارفرد وفلوريدا وبنسلفانيا ومصادر أخرى عديدة. وفي هذا السياق، تقول جمال الدين، أصدرت جامعة هارفرد وثيقة بهذا الخصوص سميت “مسار إبراهيم” في العام 2013، وتبعتها جامعة فلوريدا، وتناولت وثيقتها مشروع “الاتحاد الفدرالي الإبراهيمي” في العام 2015. 

من هنا، يتضح لنا أننا أمام مشروع أكبر بكثير من “سلام” بين “إسرائيل” والإمارات والبحرين؛ البلدين اللذين لم يحاربا “إسرائيل” يوماً، وأن “صفقة القرن” هي مشروع استراتيجي تاريخي فعلاً، إذا ما نجح في ترسيخ أسسه على أرض الواقع.

قد يقول قائل إنه من صنع الخيال، ولا يرتبط مع الواقع بصلة. وهنا يتوجب علينا أن نتذكر أن مشروع الحركة الصهيونية كان من صنع الخيال أيضاً، وبدا حلماً لم يصدق الكثيرون أنه سيتحقق، إلا بفعل إصرار الصهاينة على تحقيق أحلامهم بإقامة المؤسّسات وتجهيز الكوادر والأدوات اللازمة لذلك، وتفعيلها وفق برامج محددة ومدروسة الأهداف والمراحل، وبغياب الفعل العربي، أو تساوقهم مع مخططات الآخرين وكأنها قدر من السماء.

لأجل تحقيق هذا المشروع الفدرالي، يتم العمل منذ سنوات على 3 مستويات:

1. إقامة مراكز ومؤسَّسات وبرامج “الدبلوماسية الروحية”. وفي هذا المستوى تفصيل كثير. ومن هذه المؤسسات، جمعيتان يقودهما طوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق المعروف بولائه لـ”إسرائيل”، الأولى في أفريقيا والأخرى في الشرق الأوسط، وهاتان الجمعيتان تدربان الكوادر الشبابية للترويج لهذا المشروع. كما يدرس هذا الفكر في الجامعات الأميركية، ومنها جامعتا فرجينيا وبنسلفانيا.

2.المستوى الحكومي، إذ أسَّست الإدارة الأميركية الديموقراطية إدارة خاصة في وزارة الخارجية منذ العام 2013، أي تحت رعاية هيلاري كلينتون، وهي ما تزال فاعلة بقوة في ظل إدارة ترامب أيضاً، تحت عنوان “الحوار الاستراتيجي مع المجتمع المدني”، وتضم هذه الإدارة مئة شخصية، منها 50 دبلوماسياً و50 من الرؤساء الروحيين المؤثرين، المسلمين والمسيحيين واليهود، لتقديم المشورة للدبلوماسيين لتحقيق أهداف المشروع.

3.رعاية “الدبلوماسية الروحية” من قبل المؤسَّسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، باعتبار أن “السلام الديني” يسمح بالتنمية المستدامة، ويقاوم الفقر في الدّول التي لا تمتلك التكنولوجيا الضروريّة للتنمية.

لأجل تجسيد هذا المشروع على الأرض، انطلقت أيضاً مشاريع سياحيَّة تحت اسم “مسار إبراهيم” في الدول ذات الصلة، وهو عبارة عن مسارات تشكّل مقاطع لمسار واحد طويل، وهو مسار يزعم أن إبراهيم الخليل مشى فيه، ويرفض هذه الأسطورة المؤرخون وعلماء الآثار، بما في ذلك الإسرائيليون.

ينطلق المسار من تركيا، وبعضهم يقول من العراق، ويمرّ في سوريا ولبنان وفلسطين، ليصل إلى مكة والمدينة المنورة، ففي الضفة الغربية، يُسمى مسار “إبراهيم الخليل”، وفي “إسرائيل” يسمى “مسار إبراهيم”، حتى أصبح جزءاً من هذه المسارات/ المقاطع يستقطب السياحة الدولية بالفعل. 

ولهذا الهدف، وصل صحافيون إسرائيليون عاملون في البرنامج الشهير “مساع أحير”/ سفرة أخرى”، إلى مدينة أورفا، جنوب شرق تركيا، فجاؤوا بقصص وأساطير تتحدَّث عن بركة إبراهيم العجائبية، وعن بيته ومغارته… وهي من القصص التي تثير شغف السائح، ولكنّها في الأساس والجوهر والهدف تؤسس لوعي جديد ينشر ويعزز الرواية الصهيونية وعلاقة اليهود التاريخية في منطقة الشرق الأوسط، وتحويل الخرافات والأساطير اليهودية إلى تاريخ يروى للعالم. 

 ويبقى السؤال الأول: هل كانت ممارسات داعش الدموية والوحشية باسم الإسلام والمسلمين خلال العقد الأخير، ممارسة مقصودة وموجَّهة من جهات معينة، ليبتعد المسلمون عن دينهم، فيسهل تبنّيهم للمذهب الإبراهيمي – الإسرائيلي، وخصوصاً أننا نعلم أن الممولين والداعمين لداعش ليسوا سوى أولئك الذين يدعون اليوم إلى المذهب الإبراهيمي، أو الذين سينضمون إليه لاحقاً، أو أنَّ سلوكيات التنظيم كانت حقيقية ومن دون توجيه، وقد تم استثمارها للترويج للمذهب الجديد وتسهيل قبوله؟ 

والسؤال الثاني: هل تحتاج هذه الفدرالية إلى جيش وتحالف أمني، وهو الذي تحدثت عن إنشائه هيلاري كلينتون في العام 2013، وجاء ذكره في كتابها “خيارات صعبة”؟

أما السؤال الثالث فهو: ماذا سيفعل العرب؟ هل ينضمون إلى المشاريع “القدرية” الصهيونية أو سيتبنى محور المقاومة إفشال هذا المشروع بالفعل؟

 

  • المصدر: الميادين نت
مقالات ذات صلة