آفاق المقاومة الشعبية الراهنة في فلسطين (2)

بقلم – اليف صباغ

مراجعة نقدية لظروف الانتفاضة الأولى والثانية وسماتهما واحتمالية انتفاضة ثالثة، ومقارنة الوضع الراهن بالتجربتين السابقتين. في هذا الجزء إحاطة بالظروف الفلسطينية والإقليمية والدولية التي رافقت الانتفاضة الثانية

انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، خلافاً لظروف الانتفاضة الأولى، بوجود سلطة وطنية فلسطينية على جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة، لديها قوى أمنية تحمل سلاحاً خفيفاً، خلافاً لأي ظروف نضالية سابقة، كما أنّها انطلقت بعد أن استُنفد التفاوض العبثي مع المحتل الإسرائيلي، واقتنع الشعب والقيادة بضرورة العودة إليها، بانتظار الشرارة، وهذا ما كان يدركه الفلسطينيون والإسرائيليون على حد سواء. 

وفي الوقت ذاته، انطلقت هذه الانتفاضة في ظروف دولية أحادية القطب، أسوأ مما كانت عليه الظروف الدولية عشية الانتفاضة الأولى: مجتمع دولي أميركي القرار وصهيوني الهوى، وفي ظروف عربية غلب عليها الضعف والتشرذم والانقياد التام إلى الإرادة الأميركية، وهي ظروف أسوأ أيضاً مما كانت عليه الظروف العربية عشية الانتفاضة الأولى.

ورغم ذلك، فشلت كل المحاولات العربية والدولية عامة، والأميركية خاصة، في تدجين الشعب الفلسطيني وكسر إرادته، وفشلت التهديدات لقيادته، وعلى رأسها الرئيس ياسر عرفات. لقد أبدى الرئيس عرفات مرونة لم يتوقعها أحد في التفاوض مع المحتل الإسرائيلي، حتى اتهمه البعض بالتفريط والخيانة، ولكنّه في نهاية الأمر أبى في كامب ديفيد في نهاية أيلول/سبتمبر 2000، أن يوقّع على اتفاق لا يلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المعترف بها دولياً.

عندها، قرَّرت حكومة “إسرائيل” تنفيذ تهديداتها “بتركيعه” بالقوة. وعلى الرغم من كل التحذيرات الفلسطينية وغيرها، اقتحم أريئيل شارون باحة الحرم القدسي يوم الخميس 28 أيلول/سبتمبر، بالتنسيق المسبق مع رئيس الحكومة إيهود براك، رغم معرفتهما المسبقة للنتائج المترتبة على ذلك. 

وبذلك، أعلن شارون انتهاء الستاتيكو المعترف والمعمول به إسرائيلياً منذ حزيران/يونيو1967، والَّذي يقضي بصلاحية إدارة الأوقاف الإسلامية للحرم، وبعدم دخول المصلين اليهود إلى باحة الأقصى، وكذلك الشخصيات السياسية لـ”دولة” الاحتلال، فكان الرد الفلسطيني، الشعبي والرسمي، أشبه بما كان عليه في بداية الانتفاضة الأولى.

تصدّى المصلون المسلمون لقطعان المستوطنين، وعلى رأسهم شارون، على الرغم من الحماية الأمنية المدجّجة بالسلاح، وقوامها 3000 جندي وشرطي. وفي اليوم التالي، نفَّذت قوات الاحتلال مجزرة ضد المصلين في الأقصى، راح ضحيتها 7 شهداء وأكثر من 250 جريحاً، سميت بـ”مجزرة الأقصى الثالثة”، لكن ذلك لم يثنِ الشعب الفلسطيني، بل زاد الانتفاضة اشتعالاً في القدس والضفة والقطاع، وكذلك في مناطق فلسطين العام 1948، وقامت قوات الاحتلال بتنفيذ مجزرة إضافية استشهد فيها 13 شاباً فلسطينياً من فلسطينيي 48، خلال تظاهرات احتجاجية سلمية سميت “هبة أكتوبر” أو “هبة القدس والأقصى”، تلاحماً مع شعبهم الفلسطيني، ودفاعاً عن الحقوق الفلسطينية المغتصبة.

ويمكن القول، مرة أخرى، إنَّ المبادرة في الردّ كانت شعبيّة عامّة، شرّعتها القيادة الفلسطينية مسبقاً، والتقطتها النخبة السياسية، لتقودها لمدة ثلاث سنوات تقريباً، رغم المجازر التي ارتكبها الاحتلال، ورغم حصار المقاطعة والرئيس عرفات، ورغم المؤامرات العربية والدولية التي حيكت ضد الثورة الفلسطينيّة وقياداتها. ولم تنته الانتفاضة إلا باستشهاد الرئيس عرفات في تشرين الثاني/نوفمبر 2004.

مقارنة بالانتفاضة الأولى، يمكن تلخيص أهم سمات الانتفاضة الثانية بما يلي:

1-     الطابع الدموي لنهج قوات الاحتلال منذ اللحظة الأولى، إذ استخدمت نيرانها بكثافة ضدّ الجماهير الفلسطينية، العزلاء من أيّ وسيلة دفاعية، في باحة الأقصى، وسرعان ما استهدفت بطائراتها الحربيّة مراكز قوى الأمن الفلسطينية، لتخلق انطباعاً وكأنَّ الحالة هي معركة بين قوتين مسلّحتين. وهكذا، تمت عسكرة الانتفاضة، فاختلفت بذلك عن الانتفاضة الأولى التي تميّزت بالطابع السلمي غير المسلّح.

2-     كان اقتحام شارون لباحة الأقصى بالذات اختياراً مقصوداً في تقدير الكثيرين، وكان تصدي المسلمين لهذا الاقتحام سبباً كافياً لإعطاء الانتفاضة طابعاً دينياً إسلامياً، باعتبارها دفاعاً عن المقدّسات الإسلامية، وعلى رأسها الأقصى المبارك. وعليه، أصرّ الإسلاميون على تسميتها بـ”انتفاضة الأقصى”. 

من ناحية ثانية، رأى آخرون أنّ اختيار المحتلّ الإسرائيلي لتفجير الانتفاضة في باحة الأقصى، إنما يهدف إلى تحويل الصراع السياسي إلى صراع ديني. أما هدف الانتفاضة، فهو أكبر من الدفاع عن الأقصى، وإنما هو التحرّر الكامل من الاحتلال، فأطلق مروان البرغوثي عليها اسم “انتفاضة الاستقلال” بدلاً من “انتفاضة الأقصى”. المهم أنَّ هذه التسمية أو تلك لم تثر خلافات وصراعات مكشوفة في الساحة الفلسطينية، كما أنَّ الخلاف بين حماس وفتح حول أوسلو ونهج السلطة الفلسطينية عامة والاستمرار في المفاوضات العبثية، لم ينعكس ميدانياً.

لقد وحّدت الانتفاضة القوى الفلسطينيّة في معركة واحدة ضدّ المحتل الإسرائيلي، متغاضين عن الخلافات أو الصراعات السياسية الداخلية. ويمكن القول إن العلاقة الشخصية التي كانت تربط الرئيس عرفات بالشيخ أحمد ياسين، والاهتمام الخاصّ الذي أولاه عرفات لهذه العلاقة، خفَّفا من الخلافات وزادا من اللحمة الوطنية، وخصوصاً في ظّل الانتفاضة والتصدي المشترك للاحتلال.

3-     خلال الانتفاضة الثانية، قامت مجموعات فدائية وأفراد بعمليات تفجير استشهادية في القدس وأماكن أخرى داخل المدن أو الأحياء اليهودية ضد مدنيين وعسكريين ومستوطنين على حد سواء، رداً على المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني، من دون تمييز بين مدني وغير مدني.

هذه العمليات أضفت على الانتفاضة طابعاً عسكرياً، إضافة إلى تكريس الطابع الدينيّ. اعتقد البعض أنَّ ذلك يعزّز التضامن العربي الإسلامي، ولكنه في تقدير الآخرين، إضافة إلى أسباب أخرى، أفقد الانتفاضة دعمها الشعبي الدولي، خلافاً للدعم الذي حازته الانتفاضة الأولى، كما أفقدها إمكانية اختراق الشارع الإسرائيلي.

4-     عانت قوات الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية من انعدام المخابرات الميدانية، بسبب غياب العملاء الَّذين خدموا المحتل في الانتفاضة الأولى وفرّوا في ظلّ السلطة الفلسطينية إلى “إسرائيل”، فحاولت “دولة” الاحتلال نشرهم من جديد. وقد اعتقلت قوات الأمن الفلسطينية قسماً منهم، فلجأت “إسرائيل” إلى مداهمة السجون لتحريرهم وإعادتهم إليها. 

ورغم ذلك، استطاعت المخابرات الإسرائيلية النفاذ إلى صفوف الانتفاضة، من خلال أدوات استخباريّة أخرى، ومنها أدوات تكنولوجية حديثة، وأهمها الهواتف والحواسيب وأجهزة التصّنت التي زرعتها في أماكن متعدّدة من الضفة والقطاع، ولم تستغنِ عن عملاء ميدانيين لتحديد أهداف تقصفها الطائرات، بما في ذلك الطائرات من دون طيار، لاغتيال قادة الفصائل وقادة ميدانيين. إذاً، كان استخدام التكنولوجيا الحديثة إحدى الأدوات المهمّة التي استخدمها الاحتلال بديلاً جزئياً من العملاء الميدانيين، كما استُخدمت الطائرات من دون طيار لتنفيذ عمليات الاغتيال، وهذا أيضاً ما ميّز الانتفاضة الثانية.

مرة أخرى، نقف عند السؤال: هل ارتقت الانتفاضة الثانية إلى مستوى الحالة الثورية؟

الجواب هو نعم، ولكن لم نستطع خلخلة توازن المجتمع الإسرائيلي، كما فعلت الانتفاضة الأولى، ولم نستطع كسب تضامن الرأي العام الدولي. أما على المستوى الإقليمي، العربي والإسلامي، فقد تمخَّض “التضامن” مع الانتفاضة عن تقديم تنازلات كبيرة للمحتل الإسرائيلي، من خلال ما يُسمى “مبادرة السلام العربية” للعام 2002، التي تنازلت عن حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين، وربطته بموافقة “إسرائيل” على ذلك، رغم أنها لن توافق عليه. 

إضافة إليه، التزم العرب لـ”إسرائيل” مسبقاً في مؤتمر القمّة المنعقد في بيروت 2002، بأن يقيم كلّ العرب والمسلمين علاقة طبيعية معها في حال وافقت على المبادرة. هذه التنازلات قدّمت ضمن “سياسة الاسترضاء” التي انتهجها العرب مع “إسرائيل” طيلة عقود من الزمن، وثبت مرة بعد أخرى أنّها نهج سياسيّ فاشل، بل هي ما يزيد الإسرائيليين شعوراً بالقوة والاستعلاء والغطرسة.

مقالات ذات صلة