الكيان الصهيوني: من طور التأسيس إلى طور النَّزْع الأخير

 

 

عمرو علان

كاتب وباحث فلسطيني

 

الكيان الصهيوني كيانٌ وظيفيٌ، أُنشئ بالتعاون مع قوى الاستعمار القديم من أجل إدامة السيطرة على المنطقة العربية، بصفتها قلب العالم الإسلامي، كما أنه كِيانٌ توسعيٌّ في أصل نشأته.

لمتأمِّل المشهد الصهيوني أن يرى الأزمات المتعدِّدة التي يمرّ الكيان فيها، في أكثر من صعيد. وبينها، على سبيل المثال لا الحصر، أزماته السياسية، وأبرزها الاستعصاء الحكومي الممتد منذ شهور.

يُعَد هذا الكيان، في أصل وجوده جيشاً استيطانيّاً متستِّراً في ظل “دولة”. لذا، فإن معضلته الكبرى تتمثّل بفقدان قواته البرِّية فعاليتَها القتالية، الأمر الذي أفقدها القدرة على إنجاز المهمات المَنوطة بها، ولاسيما في مواجهة الحركات المقاوِمة، التي تُعَدّ منظمات غيرَ حكوميةٍ ذات قدراتٍ تسليحيةٍ تفوق في بعض النواحي القدرات التي تمتلكها دولٌ وازنةٌ في العالم، كما هي حال القدرة الصاروخية التي يحوزها حزب الله، على سبيل المثال، والتي تفوق القدرة النارية للدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي مجتمعةً، وذلك بحسب تقارير مراكز أبحاث صهيو- أميركية.

ناهيكم عن الفارق الواضح بين معنويات مقاتلي محور المقاومة المرتفعة، ومعنويات جنود الاحتلال شبه المنهارة.

بدأ هذا العجز لدى جيش الكيان في الظهور في إثر انسحابه من جنوبي لبنان في أيار/مايو 2000، وتجلّى في حرب تموز/يوليو 2006، ليزداد بعد ذلك عمقُ مأزق سلاح البر لديه، في حروبه الثلاث اللاحقة، والتي شنّها على قطاع غزة في الفترات 2008-2009 و2012 و2014، وصولاً إلى معركة “سيف القدس” الأخيرة، والتي لم يجرؤ فيها على استخدام قواته البرِّية للقيام بعمليةٍ برِّيةٍ على الأرض تواكب عمليات سلاحه الجوي. ويؤكد هذا الفهمَ الكاتبُ الصهيوني يوآف ليمور عقب انتهاء معركة “سيف القدس”، بحيث قال “هذا الخط الخطير – الذي سيطر على الجيش منذ انتهاء وجوده في جنوبي لبنان، وفي جوهره الخوف من القتلى والمخطوفين – يقود باستمرار إلى مخطَّطات تضخّم الجو على البر، وبالتالي قلة الاستثمار في الجيش البرِّي، وانعدام الثقة، وعدم العمل به في الوقت الحقيقي”.

من الضرورة بمكان أن نلتفت إلى ما يشير إليه هذا العجز من محدودية نتائج عملية المراجعة وتطوير استراتيجياتٍ قتاليةٍ جديدةٍ، والتي عكف عليها رئيس أركان جيش الكيان أفيف كوخافي خلال العامين الماضيين، والتي تهدف إلى إعادة صَوغ مفهوم “تصوُّر النصر” لدى جيش الاحتلال. 

وفي هذا الخصوص، صدر مؤخراً، عقب معركة “سيف القدس”، مقالٌ مهمّ وتفصيليٌّ عن “معهد القدس للاستراتيجيات والأمن”، في كيان الاحتلال، بعنوان “تصور النصر: الحاجة إلى مفهوم مُحَدَّث للحرب”، بحيث شرح المقال الأفكار الأساسية للأمن القوميّ “الإسرائيليّ”، والتي قام عليها مفهوم “تصوُّر النصر” لدى الكيان الصهيوني منذ بداياته، والتي صاغها رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق ديفيد بن غوريون؛ تلك الأفكار الأساسية التي تم تحويلها بعد ذلك إلى قدراتٍ عمليةٍ وعقيدةٍ عسكريةٍ، نجح من خلالها جيش الكيان الصهيوني – في حقبةٍ خلت – في تحقيق انتصاراتٍ حاسمةٍ ضد الجيوش العربية، على أساس الحرب السريعة، والتي اعتمدت، بالإضافة إلى تفوّق سلاح الجوّ على قوةٍ برِّيةٍ ضاربةٍ وقادرةٍ على القيام بمناوراتٍ برِّيةٍ خاطفةٍ، بهدف الاقتحام السريع لأراضي العدوّ، وتحييد قوته العسكرية. 

لكننا نجد، من خلال دراسة نتائج الحروب التي خاضها كيان الاحتلال منذ عام 2006 – في أقلّ تقدير – أن هذه القوة البرِّية لم تَعُدْ موجودة في الصيغة نفسها التي كانت عليها. ويقرّ بهذا المقال المذكور ضمن ثنايا النقاش، إذ قال: “مفهوم النصر” لا يحلّ الخلل القائم بين الذراعين الاستراتيجيتين، الجويّة والأرضيّة فحسب، بل يديمه أيضاً، ويصبح مبدعاً في الواقع”. ويضيف المقال إلى ذلك، من خلال انتقاد “مفهوم النصر” المحَدَّث، والذي يعكف الكيان الصهيوني على صياغته، بالقول “يستمر مفهوم النصر في الواقع، سواء أكان بطريقةٍ معقدةٍ، أم وفق الأفكار نفسها التي تمت تجربتها مراراً وتكراراً، من دون نجاحٍ، طوال العقود الأربعة الماضية”. 

وتوضح خلاصة النقاش التفصيلي، والذي أتى عليه المقال، أن جيش الاحتلال اعتَمَد، خلال العقود الأربعة الماضية، على نحو متصاعدٍ، على سلاح الجوّ، في مقابل تراجع مكانة القوة البرِّية لديه، على الرغم من الالتزام اللفظي في الكيان بالأفكار الأساسية للأمن القومي “الإسرائيلي”. ويستنتج المقال أن هذا الالتزام اللفظي ينسحب على “تصور النصر” المستجدّ، والذي تغنَّى به كثيراً أفيف كوخافي، ويعمل مع فريقه على صياغته، الأمر الذي يطرخ تساؤلات بشأن مدى نجاعة “تصور النصر” الجديد هذا.

وهنا، يبرز سؤالٌ جانبيٌّ، على قدرٍ بالغٍ من الأهمية، إذ كيف ستكون الحال إذا أخذنا في الحسبان أنه في أيّ حربٍ مقبلةٍ مع حزب الله سيكون من الوارد تعرض سلاح الجوّ الصهيوني لأضرارٍ تحدّ فعاليته بقدر ما؟ فلا يمكن تجاهل حقيقة تطوير إيران أنظمة دفاعٍ جويٍّ فعالةً ومحلية الصنع، يمكن أن تكون قد نُقِلت فعلاً إلى حزب الله. ولا يمكن إغفال عملية إعادة تأهيل أنظمة الدفاعات الجوية لدى الجيش العربي السوري، بالتعاون مع القوات الروسية المسلّحة، بعد أن كانت المجموعات المسلّحة، المسماة “معارضةً سوريةً”، خرَّبت تلك الأنظمة لحساب كيان العدو الإسرائيلي في بدايات الحرب على سوريا.

وإمعاناً في انتقاد جيش الاحتلال بعد معركة “سيف القدس”، تتالت الانتقادات في داخل أوساط الكيان الصهيوني، سواء أكانت “المدنية” منها، أم داخل بعض القطاعات العسكرية، تجاه قيادة جيش الاحتلال، في إثر عدم توظيفه سلاحَ البر في أثناء المعركة. حتى إن يوآف ليمور ذهب، في صحيفة “إسرائيل اليوم”، إلى حد القول إن “النتيجة هي عكسٌ للمعادلة: الجبهة الداخلية تحمي الجيش، وليس العكس. وبدلاً من تعريض جنودها للخطر لحماية المدنيين، يُعرِّض المواطنون أنفسهم للخطر من أجل حماية الجنود”.

وفي مقالٍ مهمّ آخر، نُشِر قبل معركة “سيف القدس”، في مجلة “الأنظمة” الصهيونية، ذهب كلٌّ من نائب رئيس أركان جيش العدوّ الأسبق، يائير غولان، والباحث العسكري غال بيرل فينكل من “معهد دراسات الأمن القومي” الصهيوني، إلى أنه لا يوجد بديلٌ عن قيام جيش الاحتلال بمناورةٍ برِّيةٍ لتحقيق النصر في أيّ حربٍ مقبلةٍ مع حزب الله. ويضيف المقال أن الوضع الراهن لجيش الكيان، والذي يجعل المناورة البرِّية مكملاً للقوة النارية الجوية، هو وضعٌ غيرُ صحيحٍ.

يرى البعض أنه على الرغم من دقة الانتقادات، التي ساقها المقالان المهمَّان الآنِفا الذكر لأداء جيش الاحتلال الصهيوني، فإنهما تجاهلا أمرين جوهريين. الأول: العطب البنيوي الذي أصاب الروح القتالية للجندي الصهيوني. عطبٌ لا يبدو أنه قابل للترميم، بدليل فشَل المناورات العسكرية التي يقوم بها جيش الاحتلال منذ ما يزيد على خمسة عشر عاماً، بغية استعادة الروح القتالية لجنوده، التي لم تعطِ أيّ نتائجَ ملموسةٍ. وندَّعي القوا إن لا قوة برِّيةً فاعلةً من دون جنديٍ عقْديٍ مستعدٍّ لبذل الدماء، ولاسيما في مواجهة مقاتلٍ صاحب حقٍ، مؤمنٍ، ذي عقيدةٍ صلبةٍ، ومستعدّ للشهادة في سبيل عقيدته وقضيته المحقة، كما هي حال المقاوم المجاهد ضمن صفوف قوى محور المقاومة.

أما الأمر الثاني، فيتمثّل بالسِّياق الذي أفضى بجيش الاحتلال إلى الاعتماد المتزايد على سلاح الجوّ. ويرى البعض، في هذا السياق، أمراً أساسياً في قراءة الطَّور الذي وصل إليه الكيان الصهيوني من دورة حياته، كما سنجادل.

الكيان الصهيوني كيانٌ وظيفيٌ، أُنشئ بالتعاون مع قوى الاستعمار القديم من أجل إدامة السيطرة على المنطقة العربية، بصفتها قلب العالم الإسلامي، كما أنه كِيانٌ توسعيٌّ في أصل نشأته. فمنذ بداياته، كان قادراً على التوسع جغرافياً على حساب شعوب المنطقة، وكان يفعل من دون ترددٍ، معتمداً على قوتِه البرِّية.

وكانت تلك حِقبته الطامحة إلى إقامة “إسرائيل الكبرى”. لكن هذه الحقبة انقضت بعد أن أُجبر على الانسحابين الأُحاديي الجانب من جنوبيّ لبنان في أيار/مايو 2000، ثم من قطاع غزة في أيلول/سبتمبر 2005. وبهذا، ثَبُت للعدو أنه ربما يكون قادراً على دخول أراضٍ عربيةٍ جديدة واحتلالها، لكنه لن يكون في استطاعته إدامة وجوده فيها، إذا جوبه بمقاومةٍ جادةٍ ومصممةٍ، وذات نفَسٍ طويل.

وهنا، دخل كيان الاحتلال في طورٍ جديدٍ، يعتمد، في صورة رئيسية، على تفوُّقه الجويّ وقدرتيه، النارية والتدميرية، الكبيرتين، من السماء، وذلك بهدف إنفاذ إرادته السياسية على دول المنطقة، إمّا بالحرب من الجوّ على نحو أساسي، وإمّا حتى بمجرد التهديد بحربٍ مدمِّرةٍ، يبتزّ بها دول الإقليم. وبهذا، يستمر في تلبية متطلبات أصل وجوده ككيانٍ وظيفيٍ، وكذراعٍ ضاربةٍ بالنيابة عن القوى الإمبريالية، ضمن استراتيجيات تلك القوى.

إلاّ أن هذه النظرية كُسِرت في حرب تموز/يوليو 2006، عندما أخفق الكيان في تحقيق أيٍّ من أهدافه في تلك الحرب. فلا استطاع القضاء على حزب الله في الميدان، بفعل تفوقه العسكري: جويّاً ونارياً. ولا قدِر على فرض إرادته السياسية على حزب الله، وإجباره على إعادة الجنود الصهاينة الأسرى لديه عبر تلك الحرب، التي اعتمدت، في الأصل، على قوة سلاح الجوّ، قبل أن يُضطر الكيان إلى محاولة تنفيذ مناورةٍ برِّيةٍ داخل الأراضي اللبنانية من أجل تحقيق أي مكسبٍ – ولو شكليٍّ – من أجل حفظ ماء الوجه.

وتتالت بعد ذلك إخفاقات نظرية الكيان هذه في حروب غزة، في الفترات 2008-2009 و2012 و2014، ناهيكم عن إخفاقه المستمر في إجبار سوريا على الدخول في اتفاقيات تطبيع، أو إرهابها لدفعها إلى التخلي عن عقيدتها الراسخة في دعم حركات المقاومة، أو التنازل عن ثوابتها القومية والعربية.

ثمّ جاءت معركة “سيف القدس”، التي رسَّخت، بما لا يدع مجالاً للشكّ، عجزَ سلاح الجوّ الصهيوني عن تحقيق النصر، عبر تحييد قدرات العدوّ  من الجوّ، أو عبر إنفاذ كيان الاحتلال إرادتَه السياسية على الفلسطينيين، عبر قَبول انتهاكات الاحتلال الممارَسة في المسجد الأقصى والقدس المحتلة، وتبعاً المقدسات المسيحية في فلسطين.

أما في البر، فمجدداً، لم يجرؤ كيان الاحتلال على تنفيذ أي مناورةٍ برِّيةٍ جديةٍ داخل قطاع غزة، مُثبتاً مرةٍ أخرى عدم جهوزية جيشه لتحمل الخسائر البشرية، أو قدرته على القيام بمناوراتٍ برِّيةٍ حاسمةٍ.

بل قام، في المقابل، باللجوء إلى مناورةٍ برِّيةٍ وهميةٍ فاشلةٍ، سُمّيت “مترو حماس”. وكتب تال ليف رام في “معاريف” العبرية، مقالاً بعنوان “مسؤولون أمنيون بشأن هجوم (المترو): كان يجب إدخال القوات البرية للقطاع”، قال فيه: “هناك انتقاداتٌ متزايدةٌ من القادة الميدانيين للجيش الإسرائيلي، وعلامات استفهامٍ بشأن استعداده لاستخدام القوات البرية في أثناء القتال”. وأشار، في المقال ذاته، إلى وجود ادعاءاتٍ مفادها أن جيش الاحتلال لم يفكّر حتى في إمكان إدخال قواتٍ برِّيةٍ لقطاع غزة، مؤكداً بذلك الفكرتين الرئيسيتين، واللتين خلص إليهما استراتيجيو كيان الاحتلال في المقالين المذكورين في مطلع نقاشنا هنا، وهما تراجع فعالية سلاح البر الصهيوني، وأن سلاح الجوّ لا يمكنه تحقيق النصر مهما كان “مفهوم النصر” المعتمَد.

لذا، فإن حصيلة معركة “سيف القدس” تمثَّلت باضطرار كيان الاحتلال إلى الرضوخ لقواعد الاشتباك الجديدة، التي فرضتها عليه قوى المقاومة الفلسطينية في الميدان، وعنوانها “إن عُدتم عدنا”، طلباً للهدوء وتفادياً لمزيد من الخسائر، بدلاً من نجاحه في تلبية متطلبات أصل وجوده التي ذُكِرت سابقاً، بصفته كياناً وظيفيّاً.

لعلّ هذا المستجِدّ هو ما جعل نتائج معركة “سيف القدس” تحولاً استراتيجياً، يوازي أو يفوق التحول الاستراتيجي الذي فرضته حرب تموز/يوليو 2006، بحيث يمكن القول بشأنها إنها كانت خاتمة الطَّور الثاني في دورة حياة الكيان الصهيوني، وباكورة الطَّور الثالث من عمره، والذي يبحث فيه الكيان الصهيوني عن تحقيق الأمن لمستوطنيه، ولعله يكون الأخير في دورة حياة هذا الكيان المصطنَع.

لقد أكد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في كلمته يوم 25 أيار/مايو 2021، في معرض تقييم نتائج معركة “سيف القدس”، أن أهم الإنجازات العسكرية والأمنية والميدانية، كانت في شلّ الكيان وأمنه ومجتمعه. ففي كثير من الدول القديمة والحقيقية، يمكن أن تحدث اختلالاتٌ أمنيةٌ أو حروبٌ أهليةٌ، لكن تبقى الدولة ولا تنهار. أمّا في الكيانات المصطنَعة – كما هي حال الكيان الإسرائيلي – فالأمن بالنسبة إليها هو شرط وجودٍ، وليس شرط كمالٍ. فإنِ انتفى الأمن تَنْهَر الدولة. الإسرائيلي، إذا أحس بضياع الاقتصاد وذهاب الأمن وفقدان رفاهية العيش، فأهونُ ما عليه هو العودة من حيث أتى. وهذا هو الفارق بين كيان “إسرائيل” وأيّ دولةٍ أخرى. وكان هذا إنجازاً لمعركة “سيف القدس”، لا سابق له. وهذا التقييم ورد على لسان أحد أهم قادة عصرنا الحالي واستراتيجييه، بشهادة العدوّ قبل الصديق.

 

منقول عن مؤسسة الميادين

 هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي المنهاج نت وإنما تعبّر عن رأي كاتبها

مقالات ذات صلة