التطبيعُ العربي ـــ الإسرائيلي ـــ رهاناتٌ فاشلة..

 بقلم/ د. محمد السعيد إدريس  

حملت ديباجةُ المشروع الجديد لتطبيع دولٍ عربيّةٍ مع كيان الاحتلال الإسرائيليّ (التطبيع الإماراتي- البحريني مع تل أبيب) عباراتٍ تبريريّةً من نوع: الحفاظ على السلام وتعزيزه في الشرق الأوسط وحول العالم، على أساس التفاهم المتبادل والعيش المشترك، واحترام كرامة الإنسان وحريّته، بما في ذلك الحريّة الدينيّة، وتشجيع جهود الحوار بين الأديان والثقافات وتعزيزه؛ لتشجيع ثقافة السلام بين الديانات الإبراهيميّة الثلاثة والبشريّة جمعاء. والقول: إنّ أفضل طرقٍ لمواجهة التحدّيات يمرّ عبرَ التعاون والحوار، وإنّ تطوير العلاقات الوديّة بين الدول يدعم مصالح السلام في الشرق الأوسط وحول العالم؛ هي مقولاتٌ مخادعةٌ ليست لها أدنى علاقةٍ بما أقرّهُ المجتمعُ الدولي من قواعدَ ومرتكزاتٍ للسلام العادل في الشرق الأوسط القادر على حماية السلام واستقراره؛ خاصةً تحقيق الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني وإقرارها، وانسحاب القوّات الإسرائيليّة من الأراضي العربيّة التي احتلت عام 1967 كافةً، وإقامة الدولة الفلسطينيّة وعاصمتُها القدس ُ على حدود الرابع من يونيو عام 1967.

هذا التناقضُ بين المفهومين للسلام والاستقرار يفرضُ تساؤلاتٍ مهمّةً عن دوافع الدولتين العربيّتين الخليجيّتين، وما أعقبهما من مقارباتٍ أخرى سودانيّةٍ وأخرى مغربيّةٍ للانخراط في هذا النوع من العلاقات مع كيان الاحتلال الإسرائيلي.

تكشفُ المقاربتان السودان يّةُ والمغربيّةُ للتطبيع مع كيان الاحتلال وجودَ مصالحَ وطنيّةٍ يبرّرُها التوجّه؛ فالسودانُ اتّجه إلى هذه المقاربة؛ طمعًا في قَبولٍ أمريكيٍّ بإنهاء إدراجٍ على لائحة الدول الداعمة للإرهاب أو الراعية له، وإعادة دمجه في الاقتصاد العالمي وإنهاء العقوبات الأمريكيّة. أمّا المغربُ؛ فالدافعُ الأهمُّ كان الطموحَ في دعمٍ أمريكيٍّ للموقف المغربي في قضيّة الصحراء الغربيّة مع جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر. أي أنّ الولايات المتّحدة كانت المستهدفةَ من هاتين المقاربتين للتطبيع مع إسرائيل، ونظرًا لتعثّر الدعم الأمريكي على النحو الذي كان مأمولًا، وبسبب غياب البيئة الداخليّة الداعمة لهذا التوجّه في البلدين، يمكنُ القولُ: إنّ هاتين المقاربتين مازالتا منحسرتين في حدودٍ ضيّقةٍ تختلفُ كثيرًا عن الحالتين الإماراتيّة والبحرينيّة.

في هاتين الحالتين الإماراتيّة والبحرينيّة جرى التأكيدُ على أنّ التوجّهَ نحو تطبيع العلاقات مع كيان الاحتلال الإسرائيلي هو “توجّهٌ سياديّ”، وأنّه ليس من حقّ أيّ طرفٍ أن يتدخّلَ بالانتقاد أو توجيه النصائح، ما يعنى وجود إدراكٍ لدى صانع القرار في البلدين أن التطبيع مع كيان الاحتلال “يمثّل مصلحةً وطنيّة”، ولا يمثّل اعتداءً من أيّ نوع ٍللشعب الفلسطيني وقضيّته، فما هذه المصالح؟

الإسرائيليّون هم أكثرُ من يجيبون عن كلّ الأسئلة التي تتحدّثُ عن أنواع تلك المصالح التي يرون أنّها “مصالحُ متبادلةٌ”؛ اقتصاديّةٌ وأمنيّةٌ واستراتيجيّةٌ، ضمنَ طموحٍ لتأسيس “شراكةٍ استراتيجيّة” قائمةٍ على وجود إدراكٍ بوجود مصادرَ تهديدٍ مشتركةٍ للطرفين؛ الخليجي والإسرائيلي، أبرزُها الإرهابُ وإيران، ما يعنى أنّ تأسيس مثل هذه الشراكة، سواءً أخذت اسم “حلف ناتو عربي” بمشاركةٍ أمريكيّةٍ أو أي مسمًّى آخرَ، ستكونُ كفيلةً بالتصدّي للأعداء، وبالتحديد العدو الإيرانيّ المشترك، أي أنّ العداوة ل إيران هي القاسمُ المشتركُ فى هذا التوجّه نحو التطبيع من ناحية، وأنّ ثقةَ الطرفين الخليجيّين في أنّ كيانَ الاحتلال الإسرائيلي بمقدوره توفير الحماية المفتقدة في الأمن الإقليمي الخليجي مع تنامي انحسار الدور والالتزامات الأمريكيّة نحو هذا الأمن؛ هي الدافع للانخراط في ذلك المسار لتطبيع العلاقات. لذلك أضحى ضروريًّا السؤالُ عن مدى رجاحة هذه الثقة. هل إسرائيلُ قادرةٌ على توفير الحماية المنفردة لنفسها؛ كي تملك القدرة على توفير الحماية للآخرين؟

السؤالُ مهمٌّ؛ لأنّ إجابته تقول أنّ هذا التطبيع، ومن ثَمَّ كلّ رهاناته، أو على الأقل أغلبها جاءت في ظروفٍ غيرِ مواتية، وهذه خطورتها. جاءت مقارباتُ التطبيع في ظروفٍ غيرِ مواتيةٍ من منظورين؛ أولّهما: تنامي عجز كيان الاحتلال الإسرائيلي عن توفير الحماية الذاتيّة الداخليّة والخارجيّة لنفسه دون الاعتماد على “الكفيل الأمريكي”.

وثانيهما: تراجعُ الدور، ومن ثَمَّ الوظيفة التاريخيّة لكيان الاحتلال الإسرائيلي في الاستراتيجيّة الأمريكيّة بالشرق الأوسط. فقد أسّس كيانُ الاحتلال علاقتَهُ الاستراتيجيّةَ بالولايات المتّحدة على الوظيفة التي يمكن أن يقوم بها في الدفاع عن المصالح الأمريكيّة في الشرق الأوسط دون تورّطٍ أمريكيٍّ مباشر. هذه الوظيفةُ التي دعمت المكانةَ الإقليميّةَ لكيان الاحتلال أخذت دعمَها القوي مع الانتصارات العسكريّة التى حقّقها كيانُ الاحتلال في عدوانه عام 1967.

فقد طرحت جولدا مائيير، رئيسةُ حكومة الكيان في ذلك الوقت على الرئيس الأمريكي ليندون جونسون مقايضةَ الدعم الأمريكي؛ عسكريًّا، وماليًّا، وسياسيًّا، للكيان مقابل قيامه بأدوارٍ وظيفيّةٍ تخدم المصالحَ الأمريكيّةَ بالشرق الأوسط ضمنَ مقولة “أعطونا السلاح ونحن نقوم بالمهمّة”.

التدقيقُ في هذين المنظورين يقول: إنّ إسرائيلَ ليست هي الدولةُ القادرةُ على أن تكون “كفيلًا إقليميًّا” في مقدوره تحقيقُ التوازن في اختلال توازن القوى بين الدولتين الخليجيّتين وإيران.

فالسؤالُ الذى سبق أن طرحه الجنرالُ  الإسرائيلي “يوفال ديسكين”، الرئيسُ الأسبقُ لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، عن مدى تمتّع دولة الاحتلال الإسرائيلي بالتماسك الاجتماعي والمرونة الاقتصاديّة والقوّة العسكريّة “التي سيضمن وجودها الجيل القادم” جاء صادمًا للكثيرين داخل الكيان وخارجه؛ لأنّه يجيءُ معاكسًا لمكوّنات “الصورة الذهنيّة” التي جاهدت الحركة الصهيونيّة بمنظّماتها المختلفة في أنحاءٍ متفرّقةٍ من العالم قبل قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، والعقود التي أعقبت ذلك لفرضها، التى جعلت من إسرائيلَ “أسطورةً” يصعبُ التشكيك في رواياتها، بل جعلت العالم أكثرَ استعدادًا للدفاع عن تلك الأسطورة.

ومن خلال امتلاك الأداة الإعلاميّة والفكريّة؛ نجح أباطرةُ “المشروع الصهيوني” في تخليق العشرات، وربّما المئات، من الصور الذهنيّة عند اليهود وعند العالم الآخر المستهدف؛ بأنّ يقوم بأدوار الدفاع عن إسرائيلَ بل وعند العرب أنفسهم من خلال تزييف الوعي بالصراع وأسبابه وأهدافه. كانت معركةُ “الصورة الذهنيّة” بحقّ، أهمّ معارك الحركة الصهيونيّة التي اعتمدت على محو الرواية العربيّة والحقوق العربيّة، وإحلال الراوية اليهوديّة محلّها. ووصلت معركةُ هذه الصورة الذهنيّة إلى ذروتها بفتح ملفّ الدعوة إلى تأسيس “دولة إسرائيل التوراتيّة”، وهي الدعوةُ التي جاءت على رأس أولويّات تكتّل “الليكود” الذي يتزعّمه بنيامين نتنياهو في حملته الانتخابيّة في إبريل 2019.

فقد وضعت هذه الحملةُ على رأس أولوياتها “إقامة دولة إسرائيل داخل الحدود التوراتيّة”، وهذا يعني وَفْقًا للخرائط الرسميّة احتلال كلّ لبنان، وكلّ فلسطين، وكلّ الأردن، ونصف سوريا، وثلثي العراق، ونصف سيناء. هذه الدعوةُ جاءت لتتوافقَ مع الترويج الإسرائيلي لأكذوبةِ تحوّلِ إسرائيلَ إلى “قوّةٍ إقليميّة عظمى” تتزعّمُ الشرقَ الأوسطَ، ولتكمل الجوانب الأخرى لأسطورةِ إسرائيلَ الكبرى التي لا تقهر. كان هذا يعنى بمفاهيم القدرات الاستراتيجيّة، أنّ إسرائيلَ باتت تملكُ القدراتِ اللازمةَ لمواجهة أيّ تهديداتٍ أو تحدّياتٍ خارجيّةٍ تتعارضُ مع مشروعاتها في التوسّع والسيطرة وبسط النفوذ، وأنّها أضحت في الوقت ذاته تمتلكُ القدراتِ اللازمةَ لجعل التماسك السياسي والاقتصادي والثقافي والمعنوي الصلب حقيقةً واقعةً في بِنيتها الداخليّة، وأنّها عصيّةٌ على أيّ اختراقٍ أو تهديدٍ يحولُ دونَ جعلها وطنًا خالصًا لليهود دونَ غيرهم، أي دون الفلسطينيّين على نحو ما نصّ على ذلك قانونُ القوميّة، الذى كان قد أصدره الكنيست (البرلمان) في ذلك الوقت.

والآن، تجيءُ تساؤلاتُ يوفال ديسكين؛ لتعلنَ عن تصدّعِ مكوّناتِ تلك الصورة الذهنيّة، والكشف عن زيف هذه المكوّنات بما قدّمه من إجابات، كان قد سبقه إليها الجنرالُ عاموس جلعاد، رئيسُ “معهد هرتسيليا”؛ بوصفِهِ دولةَ الاحتلال بأنّها “منزلٌ محميٌّ بجدرانٍ قويّةٍ في حين يأكلُهُ النملُ الأبيضُ من الداخل”. وحتّى هذه “الجدران القويّة” بات مشكوكًا في صلابتها باعتراف قائد الجبهة الداخليّة الإسرائيليّة الجنرال “أورى جوردين” الذي حذّر في كلمةٍ له خلالَ مؤتمرٍ مهمٍّ ب القدس المحتلّة (16/3/2021) من ألفي صاروخٍ يوميًّا تنتظرُ إسرائيلَ في الحرب المقبلة مع “حزب الله” وصواريخ المقاومة الفلسطينيّة “قادرةٌ على ضرب أيّ بقعةٍ على أرض إسرائيل”. تحذيرٌ أكّده الجنرالُ “تسيفكا حايموفيتش” قائدُ منظومةُ الدفاع الجوي في جيش الاحتلال، الذي عدّ أنّ الأضرارَ التي ستحدث في إسرائيلَ نتيجةَ الهجمات الصاروخيّة ستكونُ خطيرةً جدًّا، وستؤدّي إلى أحداث الهدم وإيقاع القتلى، علاوةً على أنّ الصواريخَ ستكونُ من أنواعٍ مختلفةٍ؛ “الأمرُ الذي يمنحُها القدرةَ على إيقاع الإصابات الماديّة والبشريّة بصورةٍ لم تعرفها إسرائيلُ من قبل”.

لقد أضحى هذا الكيانُ الإسرائيلي مسكونًا بهواجس التهديد، سواءً أكانت خارجيّةً أم داخليّة، ما يعني أنّ “الجدران القويّة” التي اعتقد عاموس جلعاد أنّها تحمي إسرائيلَ من أي تهديدٍ خارجيٍّ أخذت تفقدُ صلابتَها في ظلِّ اعتبارين؛ أوّلُهما: أنّ قدرة الأطراف المعاديّة لإسرائيلَ باتت قادرةً على امتلاك المزيد من إيقاع الأذى بالكيان الإسرائيلي، وثانيهما: أنّ الجبهةَ الداخليّةَ الإسرائيليّةَ تزدادُ هشاشةً يومًا بعد يومٍ ما يجعلُها غيرَ قادرةٍ على تحمّل أعباء أيّ حربٍ قادمة، وهذا ما حرص على تأكيده الجنرال “يوفال ديسكين” في مقاله المشار إليه المنشور في صحيفة “يديعوت أحرنوت”، وخصوصًا إشارته إلى الاتّجاهات الديموغرافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة “التي تغيّر بالفعل جوهرَ إسرائيّل” ويقدّر لها، وَفْقَ تأكيدِهِ “أنّ تعرُّضَ وجودِها للخطر خلالَ جيلٍ واحد، قد يزداد الانقسام بين الإسرائيليّين عمقًا، وأصبح الانقسامُ بين اليمين واليسار مهيمنًا أكثرَ من الخلاف بين اليهود والعرب، كما أنّ انعدامَ الثقة في أنظمة الحكم أخذ في الازدياد، والفساد ينتشر في الحكومة والتضامن الاجتماعي ضعيف”، لم يكتف ديسكين بذلك بل أوضح أن “الحريديم (اليهود المتشددين) باتوا عبئًا، وأنّ منهم من باتوا منتشرين في الاتجاهات المعادية للصهيونيّة، وبالنسبة لهم، فإنّ إسرائيل في طريقها للخسارة”. ولعلّ هذا ما حفّز “أفيغدور ليبرمان” رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” وزير الحرب الأسبق للقول: إنّه “يجب وضع نتنياهو واليهود المتشدّدين دينيًّا على عربةٍ ورميهم في مكبّ النفايات”.

هكذا تزدادُ “الصورةُ الذهنيّة” عن “إسرائيلَ الأسطوريّة” أو “أسطورة إسرائيل” تفكّكًا، مع كلّ يومٍ تفقدُ فيه دولةُ الاحتلِال كونها “ملاذًا لليهود” في ظلّ واقعٍ مريرٍ يتفاقمُ يومًا بعدَ يومٍ يؤكّدُهُ تزايدُ أرقامِ الهجرةِ المضادّةِ أو المعاكسةِ من إسرائيلَ إلى الخارج، مع تراجُعٍ حادٍّ في أعداد المهاجرين من الخارج إلى إسرائيل، وتنامي الشغف بالحصول على جواز سفرٍ ثانٍ إلى جانب الجواز الإسرائيلي، ووجود أكثرَ من مليون إسرائيليٍّ يحملونُ الجنسيّةَ الإسرائيليّةَ يعيشون في الخارج في إقامةٍ دائمةٍ أو شبه دائمة. ويمكنُنا أنّ نعدّدَ نبوءاتِ قادةٍ إسرائيليّين عسكريّين وسياسيّين التي تشكّكت في قدرة إسرائيل على البقاء مستقبلًا، أمثال إبراهام يورج، وعاموس جلعاد، وإبراهام ليفي، واستر حيوت، وإسحق بريك، والآن يجيء يوفال ديسكين؛ ليؤكدَ أنّ “إسرائيل لن تصمد أمامَ التهديدات المختلفة في المنطقة التي يعيش فيها. “نبوءاتٌ وقراءاتٌ علميّةٌ مستقبليّةٌ تجعلُ أوهامَ الترويج لكون هذا الكيان أضحى قوّةً إقليميّةً عظمى أشبه بصفير السائر في الأزقة الضيّقة في ظلمة الليل الحالكة.

هذا السائر الذي يرتعد خوفًا من داخله يلجأ إلى الصفير بصوتٍ عالٍ؛ ليطمئنَ نفسَهُ بأنّه في أمان. يتفاقمُ مع تساقط رهانات كيان الاحتلال على دوره الوظيفي في خدمة المصالح الاستراتيجيّة الأمريكيّة في ظلّ متغيّرين مهمّين؛ أوّلهما: ذلك الأفول الذي أخذ يسيطرُ على القوّة والمكانة الأمريكيّة العالميّة في ظلّ صعود قوى عالميّةٍ أخرى منافسةٍ، خاصةً الصين وروسيا، ثانيهما: تراجع مركزيّة الشرق الأوسط ضمنَ خريطة المصالح الأمريكيّة في الشرق الأوسط لصالح أولويّة الصراع الأمريكي مع الصين في منطقة المحيطين؛ الهادي والهندي.

الخلافاتُ الإسرائيليّةُ المتصاعدةُ مع الولايات المتّحدةُ حولَ الرفض الأمريكي للمطالب الإسرائيليّة بإنهاء مسعى التفاوض مع إيران حولَ الاتفاق النووي والضغوط الإسرائيليّة على واشنطن من أجل ضرورة وضع الخيار العسكريّ خيارًا أمريكيًّا بديلًا للقضاء على ما تسمّيه تل أبيب بـ “الخطر النووي الإيراني” في ظلّ اعترافٍ إسرائيليٍّ بالعجز عن القيام بهذهِ المهمّة منفردةً دونَ مشاركةٍ أمريكيّةٍ يؤكّدُ عجزَ، بل وفشل الترويج الإسرائيلي لمقولة “القوّة الإقليميّة الإسرائيليّة الكبرى” التي روّجت لها في الخليج لملء فراغ الغياب الأمريكي الآخذ في التزايد، ومن ثَمَّ فشل رهانات ومبرّرات التطبيع التي جرى الترويجُ لها، وأهميّة مبرّراتٍ أخرى تعدّ ذات أولويّةٍ قصوى بالنسبة للعقل الاستراتيجيّ الإسرائيليّ ترى أنّ إسرائيل هي التي باتت في أمس الحاجة إلى التطبيع مع العرب من منظورين؛ أوّلُهما: الاحتماء بالعرب طرفًا إقليميًّا مع غياب القوّة الأمريكيّة أو الحليف الأمريكي الداعم للكيان، أي أنّ الشراكةَ العربيّة مع “إسرائيل” توفّر لإسرائيلَ قدراتٍ في أمس الحاجة إليها؛ اقتصاديّةٍ وماديّةٍ بل وعسكريّة، خاصّةً الاقتراب الجغرافيّ مع إيران، وثانيهما: منح “إسرائيل” الشرعيّة الإقليميّة المفتقدة، وترسيخ الرواية الصهيونيّة – التوراتيّة للصراع على حساب الرواية العربيّة، والعمل على تخليق صورةٍ ذهنيّةٍ للكيان الصهيوني مغايرةٍ قادرةٍ على “غسل السمعة الرديئة”، و”اقتلاع الأمل” الفلسطيني نهائيًّا في العودة إلى فلسطين من العقل الفلسطيني والعربي، وإجباره على نسيان كلّ الجرائم التي ارتكبت بحقّ الشعب الفلسطيني، وبحقّ الشعب العربي، خاصّةً في دول الجوار للكيان الصهيوني التي كانت تسمّى في أيام مضت بـ”دول الطوق” وهي مصر وسوريا والأردن ولبنان. فهم في الكيان يدركون أنّ مجرّد “بقاء أمل” لدى الشعب الفلسطيني والشعب العربي بالانتصار في يوم ما، واستعادة الحقوق المغتصبة، وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقّه في تقرير المصير، وإقامة دولته المستقلّة يعدّ “الخطر الأكبر” على مستقبل كيانهم، بل إنّه يعدّ “خطرًا وجوديًّا” يهدّد وجودَ هذا الكيان وبقاءه، كدولةٍ على الأرض التي تقيم عليها، ومن ثَمّ يجب العمل بشتى الطرق على اجتثاث هذا الأمل.

هذهِ المعركةُ يسمّونها في إسرائيلَ بمعركة “كي الوعي العربي”، أي محو الذاكرة العربيّة، وإجبار العقل العربي على أن ينسى كلَّ الجرائم التي ارتكبت ويتغاضى عن كلّ الحقوق التي اغتصبت، وأن يقبل فقط بما هو مفروضٌ عليه أن يقبله “لا يوجد شيءٌ اسمُهُ فلسطين.. فقط توجدُ حقيقةٌ اسمُها إسرائيل”، ولعلّ هذا ما يفسّر أسبابَ إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي أنّ “الحرب على وعي الجمهور العربي باتت مركّبًا أساسيًّا في استراتيجيّة الأمن القومي الإسرائيليّة”.

من هنا تأتي مركزيّةُ أحدث المعارك في الحرب المعنويّة “النفسيّة – الثقافيّة” التي يخوضُها الكيانُ الصهيوني، وهي معركةُ التطبيع النفسي- الثقافي مع الدول العربيّة، ضمنَ ما يعدُّهُ الإسرائيليّون حاليًّا “تهافتًا عربيًّا للتطبيع مع إسرائيل”. فهم داخل الكيان يدركون، عن وعيٍ، أنّ كلَّ أنواعِ ما يسمّى بـ “التطبيع العربي” مع الكيان الصهيوني وأشكاله؛ سواءً أكانت سياسيّةً أم اقتصاديّةً أو حتّى عسكريّة – استراتيجيّة، ستظلّ مهدّدةً بأحداثٍ داخليّةٍ قد تحدث في الدول التي سوف تتورّطُ في هذه الموجة التطبيعيّة، ولعلّ هذا ما يفسّر أسباب الرفض الإسرائيليّة لاحتمال تزويد الولايات المتّحدة لدولة الإمارات بطائرات “F35” المقاتلة المتطوّرة خشية أن تحدث تغييراتٍ سياسيّةً في الإمارات تؤدّي إلى إمكانيّة استخدام هذه الطائرات ضدّ الكيان الصهيوني.

أمّا التطبيعُ المعنوي “النفسي- الثقافي” فهو بالنسبة لهم التطبيع الذي يمكن أن يؤدّي إلى ترسيخ كلّ أشكال التطبيع الأخرى وإبقائه في أمان. لذلك فهم يعطون هذا التطبيع النفسي – الثقافي مكانةً أخرى أعلى سموًّا، فهو المعركةُ التي ستؤمّنُ لكيان الاحتلال أهمَّ وأغلى ما يطمحُ إليه، وما يطمع فيه، وهو الحصولُ على “الشرعيّة الإقليميّة”، أي الحصول على اعترافٍ عربيٍّ واضحٍ وصريحٍ بأنّ وجودَ كيان الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين المحتلّة “وجودٌ شرعي” بكلّ ما يتضمّنه هذا الاعترافُ من إنكارٍ لوجود شيءٍ اسمُهُ فلسطين أو الشعب الفلسطيني أو الحقوق الفلسطينيّة المشروعة. فلكي يكتسبَ الكيانُ الصهيونيُّ “الشرعيّةَ الإقليميّة”؛ فمن الضروري أن يتخلّى الشعبُ الفلسطيني ومعه كلُّ الشعب العربي، وربّما الشعوب الإسلاميّة عن “الرواية التاريخيّة الفلسطينيّة” التي تقول: إنّ الأرضَ هي أرضُ فلسطين، وإنّ الشعبَ الفلسطينيّ هو صاحبُ هذهِ الأرض، وإنّ الكيانَ الصهيوني كيانٌ مغتصبٌ انتزع الشعبَ الفلسطيني من أرضه، ضمنَ “مؤامرةٍ دوليّة” غيرِ مسبوقة، وإنّ ما يسمّى بـ “الشعب الإسرائيلي” أكذوبة، هؤلاءِ عصاباتٌ تمّ الدفعُ بهم من أوطانهم إلى فلسطين لإقامة الوطن المزعوم، وإنّ حقوق الشعوب لا تسقط بالتقادم. وفى مقابل ذلك يجب أن يقبل العقل الفلسطيني والعربي والإسلامي بجدارة “الرواية الإسرائيليّة” التي اعتمدت أساطير وأقوال العرّافين وتمسّكت، باستمرارٍ، بشرعيّة المشروع الصهيوني الذى يدعو للعودة إلى “أرض الميعاد” بعد غيابٍ قسريٍّ مزعومٍ استمرّ آلاف السنين، وأنّ المشروع الصهيوني جاء لينقذ اليهود من اللاساميّة ومن عمليّات الاضطهاد والإبادة كما جرت في أوروبا بشكلٍ خاص، والاعتراف أيضًا بأنّ الأرضَ المتنازع عليها هي “أرض الشعب اليهودي وحده ودون منازع” وأن من يسمّون بـ “الفلسطينيّين” هم “محتلّون”، وأنّ كلّ معارك إسرائيل كانت “معارك تحرير”، وأنّ الجيش الإسرائيلي ليس جيش احتلال بل جيش وطني، وأنّ الاستيطان في القدس هو “حقٌّ مكتسب” لشعبٍ يبني في عاصمته، مثل كلّ شعبٍ آخر.

الأخطرُ من هذا كلِّهِ أنّهم حريصون على اقتران ما بات يسمّى بـ “التطبيع” بما هو أهمُّ، وهو “الخضوعُ والاستسلام” لدولة الكيان باعتبارها “القوّةَ الإقليميّةَ العظمى” على نحو ما كتبه معلّقٌ إسرائيليّ في موقع “سيحا مكوميت” تحت عنوان “المعركة على الوعي” بالقول: إنّ “المسلسلات الدراميّة العربيّة التي باتت تروّج للتطبيع مع إسرائيل، لا تفعل ذلك ضمنَ إطار عملٍ تطبيعي، بل هو اعترافٌ بالواقع وخيبة الأمل”. ووَفْقًا لفهم هذا الكاتب فإنّ “العالم العربي أضحى يعترف بحقيقة الفجوة الهائلة بينه وبين إسرائيل، إن كان على الصعيد التكنولوجي أو القوة العسكريّة، كلمة التطبيع هنا هدفُها التخفيفُ من وطأة قسوة الواقع، هي نوعٌ من غسيل الكلمات. في واقع الأمر هذا استسلام. فليسمّوا هذا ما يريدون وليحاولوا غسيل الكلمات والمفاهيم فقط؛ لإنقاذ شرفهم العربي، وعليهم أن يعرفوا أنّ دولةَ إسرائيل انتصرت، وهذه حقيقةٌ منتهية”. هذا هو الرهانُ الحقيقيُّ الذى يأملونه.

بتصرف من فلسطين اليوم – غزة

مقالات ذات صلة