انتفاضة الحجارة .

محمد ابراهيم المدهون

 

مثلت انتفاضة الحجارة تحول استراتيجي وتاريخي في مسار النضال الفلسطيني، وأكدت أن الحالة الفلسطينية في المقاومة والتمسك بحقه غير قابلة للقياس والتوقع، ويمثل الفلسطيني حالة استثنائية في التاريخ المعاصر ليس القريب. بل إن انتفاضة الحجارة مثلت استدارة تاريخية في دورة زمن جديدة لصالح الفلسطيني بعد أن دانت الأرض للمحتل وأقصى الفلسطيني بعد 1982م كمناضل بعيدًا عن حدود فلسطين، ولعل دورة الزمن منذ انتفاضة الحجارة بدأت صعوداً لصالح الحق الفلسطيني، بل واستعادت موازين ردع مع المحتل بشكل غير مسبوق. 

انتفاضة الحجارة أعادت الاعتبار للحالة الرمزية للحق الفلسطيني وظهرت صورة طفل يحمل حجرًا رمزاً للشعب الفلسطيني المظلوم، والذي يمثل داوود في مواجهة جالوت الظالم المعربد، واليوم الصورة السائدة في العالم أن طفل يحمل حجراً يعني فلسطيني. والحجر الفلسطيني هذا تطور وتعاظم لتتعدد أدوات المقاومة، واليوم غزة بنموذجها المقاوم ولدت من رحم الحجر، بل إنه غدا صورة ملهمة للعالم والمظلومين والمستضعفين، وخاصة في العالم العربي. ولذلك رأيت مشهد شارع الانتفاضة كأنه صورة مستوحاة لانتفاضة الحجارة والتي سادت ومنذ سنوات شوارع ومدن وميادين العرب في أكثر من مكان، ومثلت مدخلاً لكي الوعي واستدارة عظمى لصناعة وعي جديد. فضلا عن ان انتفاضة الحجارة أدرجت مصطلح انتفاضة في قاموس المصطلحات بجميع لغات العالم. الحضور الشعبي وقيادة الشعب للميدان وتقدمه حتى على قيادته أحد أهم إنجازات انتفاضة الحجارة التي اعادت الاعتبار للشعب الفلسطيني على الفصائلية وقواه المناضلة، وهذا تحول استراتيجي في مسار المقاومة الفلسطينية سمح بتوفير خزان بشري لا ينضب من الحالة الشعبية المتدافعة في ميدان انتفاضة الحجارة مما ساهم في توفير بيئة تربوية نضالية في شارع الانتفاضة وفي قيود السجن، مما أثر على حالة الإنضاج النوعي وإعادة هيكلة القوى الفلسطينية على أساس ثقافي اشتباكي متجدد في الأزقة والشوارع.

انتفاضة الحجارة أيضا أعادت الاعتبار للداخل المحتل وتحديدًا أراضي 67 في الضفة وغزة التي استلمت منذ انطلقت انتفاضة الحجارة زمام القيادة والتي كانت حصرا في الخارج، وحينها كان الداخل المحتل يقف على قارعة الانتظار للمخلص، واليوم قيادة الشعب الفلسطيني بكافة مكوناته النضالية في الداخل الفلسطيني. وصاحب ذلك منح الشعب الفلسطيني جرعة كبيرة من الكرامة التي بدأت تُفتقد، فالاحتلال قبل انتفاضة الحجارة بعدده القليل في الشارع الضفي والغزي يمكن أن يهين مئات من الرجال، ولكن هذا المشهد لم يعد له مقام، وإنما الصورة الآن لابن هذه الانتفاضة يدوس رأس جندي صهيوني في مشهد إذلال غير مألوف عربيًا ولا عالميًا، ولعل هذا التحول يساهم بشكل كبير في صناعة الصورة الذهنية الجديدة لدى الاحتلال، مما يفسر رهبته ورعبه اليوم من غزة المسكينة الضعيفة المحاصرة. الوحدة الوطنية أحد أهم مؤشرات القدرة على الفعل الثوري والنضال لتحرير فلسطين وعودة أهلها، وكانت انتفاضة الحجارة بوابة رئيسة للوحدة على قاعدة وحدة الميدان بالقيادة واستيعاب مفاعيل الثورة والقبول بالتشاركية، فضلاً عن المعتقلات وما ساهمت به من عقد مخيمات تدريبية مغلقة تجسد الوحدة من خلال التعدد.

انتفاضة الحجارة أكدت بشكل قاطع أن مخزون الثورة وإرادة التحدي والاستعداد للتضحية لدى الشعب الفلسطيني أكبر من الوصف وأعظم من التوقع، وشكل عبر الانتفاضة أملاً لمستوى القدرة على الصمود ومقارعة المحتل مما شكل ضوءً في نهاية نفق الاحتلال. كما شكلت انتفاضة الحجارة فعلاً تراكميًا بعيد المدى من حيث البناء على ما سبق من فعل نضالي أو من حيث المدى الزمني الممتد الذي عاشته الانتفاضة والذي أسهم بشكل كبير في ولادة جيل جديد اسمه جيل الانتفاضة، والذي يفخر كاتب هذه السطور أنه ابن هذا الجيل الذي تميز بأنه ينتقل من جيل نكبة ونكسة إلى جيل مدافعة وتغيير قدمًا نحو جيل تحرير ملامحه تتعاظم اليوم وخاصة في غزة. نتائج انتفاضة الحجارة عظيمة على مستوى الإلهام أو التغير أو بناء جيل، وأيضا في المضمار السياسي فقد أعادت للقضية الفلسطينية بريقها بعد أن اندثرت في قبر كامب ديفيد، وتضاءلت أكثر في خروج الثورة الفلسطينية من لبنان.

وفي النتيجة ارتفع صوت فلسطين مما أجبر المحتل على الجلوس على طاولة المفاوضات وكان اتفاق أوسلو والذي في مخرجاته وفق تقييم أصحابه أجهض الانتفاضة ولم يحقق سقف طموح شعب فلسطين. انتفاضة الحجارة كانت انعطافه خاصة في مسار شعب ونقطة ضوء في نهاية نفق الاحتلال وولادة جيل من رحم المعانة وإرادة انتصار في زمن الهزيمة. وانتفاضة الحجارة تدشين حقبة جديدة لولادة أمة ما زالت تعيش مخاضها وآلامها وآمالها.

مقالات ذات صلة