بين ترامب وبايدن.. هل يقع العالم في الفخّ الأميركيّ؟
لا شكّ في أنَّ عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ترامب كان لافتاً بغرابته غير الطبيعية، وذلك مقارنة مع مسار تاريخي من السياسة الأميركية كان دائماً مختلفاً عما شهدناه في السنوات الأربع الأخيرة، إذ كان يطبع هذه السياسة قبل الرئيس ترامب الكثير من التنوع بين الدبلوماسية والسياسة والضغوط، بحيث يبقى التواصل المتوازن قائماً مع باقي دول العالم، وعلى الأقل مع الدول الفاعلة والكبرى، وذلك إلى درجة كافية لتنفّذ واشنطن مخططاتها بالحد الأدنى، من دون الاصطدام الواسع والعنيف مع الجميع تقريباً، كما شهدنا في عهد الرئيس ترامب.
هذا الاصطدام السياسيّ والدبلوماسيّ الأميركيّ مع أغلب الدّول، والذي شكَّل مرحلة من اللاتوازن الدولي ومن تخطي الأعراف والمواثيق، يمكن تحديده بالنقاط التالية:
أولاً: الاصطدام مع الدّول الكبرى ومع القانون الدّوليّ
تعدّدت الاتفاقيات الدّوليّة التي انسحب منها الرئيس ترامب. وقد خرج من أغلبها، على الرغم من أنَّ الرؤساء الأميركيين السابقين كانوا من الساعين والمؤيدين، وحتى الرعاة أحياناً، لتلك الاتفاقيات، ومنها اتفاقيتا المناخ والتجارة الدولية (أدار ظهره للأخيرة بفرضه رسوماً جمركية تتجاوز سقوفها القانونية)، إضافةً إلى انسحابه من أكثرها حساسية، والمتعلّقة بنزع أو خفض أو تقييد القدرات النووية والصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، أو ما يتعلّق بمعاهدة الأجواء المفتوحة أو بمعاهدة حظر الأسلحة الكيمياوية والجرثومية، إذ انسحبت واشنطن عملياً من بعض تلك الاتفاقيات، من دون الإعلان رسمياً عن ذلك.
من جهة ثانية، خلق ترامب إشكاليّة غير مفهومة مع دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مهدداً بالانسحاب منه، وذلك على خلفية تمويل ميزانيّة الحلف المذكور، متجاوزاً نظام تأسيس الأخير وتحديداً النقطة المتعلقة بطريقة التمويل ونسبة التزام كل طرف.
أيضاً، خلق الرئيس ترامب اشتباكاً خطيراً وحساساً مع الصين على خلفيات تجارية ومالية غير مبررة، أو على خلفية اتهامه بكين بالتسبب بنشر فيروس كورونا عبر العالم، ما أنتج جواً من التوتر والتشنج في شمال المحيط الهادي وفي بحر الصين الجنوبي يحمل نسبة كبيرة من إمكانية الصدام العسكري.
ثانياً: الاصطدام مع قضية فلسطين والحقوق العربية
لم يعمد أيّ رئيس أميركيّ قبل الرئيس ترامب إلى إعطاء “إسرائيل” ما أعطاها إياه الأخير على حساب الحقوق العربية والفلسطينية. لم يكن أحد من هؤلاء أساساً في أيّ فترة مع تلك الحقوق، ولكنَّ الرئيس ترامب تجاوز الجميع في قراراته ومواقفه في عدم الالتزام بأغلب ما كانت المؤسسات الدولية قد ثبتته من هذه الحقوق – على ضآلته. هذه المواقف تُلخّص بالتالي:
– نقل سفارة واشنطن إلى القدس المحتلة، والاعتراف بالأخيرة عاصمة لـ”إسرائيل”.
– فتح باب الدعم الأميركي لـ”إسرائيل” على مصراعيه، لناحية زيادة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية، وتثبيتها بشكل مخالف لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن حول وجوب وقف الاستيطان وإزالة أغلبها.
– نزع صفة الأراضي المحتلة عن القسم الذي تحتلّه “إسرائيل” من الجولان السوري، بعكس نظرة وموقف الأمم المتحدة وأغلب الدول الغربية، وحتى الحليفة منها لواشنطن.
– الدفع بكل قوة ونفوذ واشنطن دبلوماسياً ومالياً وعسكرياً لدفع دول عربية وإسلامية إلى التطبيع مع “إسرائيل” أو لتوقيع أكبر عدد من الاتفاقيات بين الأخيرة وبين دولٍ عربية، مثل الإمارات والبحرين والسودان، والحبل على الجرار.
ثالثاً: الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران
بشكل مخالف لكل الأعراف والمواثيق الدولية، ومن دون أي مبرر منطقي أو قانوني، انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني المصدق من الأمم المتحدة ومن مجلس الأمن، مع فرضه عقوبات قاسية وغير إنسانية على إيران، وذلك خلافاً لكل الأعراف والقوانين الدولية.
من هنا، هذا العدد غير البسيط من المعاهدات التي انسحب منها الرئيس ترامب، إضافةً إلى أغلب الصدامات والخلافات التي افتعلها مع الدول الكبرى وغيرها، أوحى بأنَّ الولايات المتحدة الأميركية أصبحت مع الرئيس ترامب غير مؤهلة للالتزام بأغلب ما تتعهد به إداراتها تحت سقف القانون الدولي، ما يجعلها أقرب إلى دولة مارقة خارجة عن المجتمع الدولي ومؤسساته.
كل ذلك في الوقت الذي لا يمكن لهذا المجتمع أن يتغاضى أو يتجاوز الموقف أو الموقع الأميركي بتاتاً، أولاً بسبب القدرات الضخمة التي تملكها الولايات المتحدة الأميركية، وثانياً بسبب نفوذ الأخيرة حول العالم، وقدرتها الواضحة على التأثير في أغلب الملفات الدولية بشكل مباشر.
الآن، ومع قرب تسلّم الرئيس المنتخب جو بايدن السلطة، هناك أسئلة كبرى يجب طرحها ومحاولة الوقوف على أبعادها، وهي:
هل من السّهولة والبساطة أن تسمح الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية بوصول إدارتها إلى هذا الموقع غير المتوازن دولياً؟ وهل يمكن لأيّ رئيس أميركيّ، مهما كانت صلاحياته، استناداً إلى الدستور، أن يوجه سياسة هذه الدولة القوية والقادرة، صاحبة النفوذ الواسع في العالم، كما يريد، وتبعاً لأهوائه الشخصية؟
في الواقع، من غير المنطقي أن يكون الموضوع بهذا الشّكل وبهذه البساطة، الأمر الذي يدفعنا إلى التفكير في إطار آخر لا يمكن استبعاده، ويقوم على إمكانية وجود اتفاق عميق ومخفي بين عدد محدد من نافذي كلّ من الجمهوريين والديموقراطيين من المؤثرين في سياسة الولايات المتحدة العميقة والثابتة في كل العهود، يقضي بإيصال العالم أو على الأقل الدول الفاعلة منه، إلى المقارنة بين السيئ والأسوأ، أي بين نموذج ترامب غير المتوازن الذي أصبح الجميع تقريباً مستعدين للهروب منه في العلاقات الدولية وفي التنافس والصراع على النفوذ، ونموذج بايدن الدبلوماسي والهادئ والملتزم بتعهدات الإدارة الأميركية، فتهرع هذه الدول للاتفاق أو الاقتراب أو الاقتناع بسياسة أو نموذج بايدن المعاكس أو المختلف عن نموذج ترامب.
من جهة أخرى، تكون المرحلة اللاحقة من المناورة الأميركية (المشتركة بين الجمهوريين والديموقراطيين) إعادة فتح خطوط التواصل بين أغلب هذه الدول الّتي اصطدمت مع ترامب، ومنها الصين وروسيا وإيران والاتحاد الأوروبي والعرب غير المطبعين، وذلك على أساس تحقيق توازن المصالح، وتحت سقف المنافسة المعقولة والطبيعية غير الصدامية، بحيث تنطلق الولايات المتّحدة الأميركيّة بإدارة بايدن في تلك المفاوضات وهي تملك في الأساس نقطة رابحة قوامها رغبة الجميع وحاجتهم للاتفاق معها بنموذج بايدن الدبلوماسي الهادئ والساعي إلى إعادة التواصل الدولي، والمختلف أو المعاكس بالكامل عن نموذج ترامب الصدامي والمشاكس، والذي كان شعاره “أميركا أولاً”.
نقلاَ عن مؤسسة الميادين