السياق الأخلاقي في ملحمة “طوفان الأقصى”

يقف المقاوم الفلسطيني اليوم في مواجهة سياسة الأرض المحروقة، وهي تحرق غزة صبح مساء، ولكنه يحمل أخلاقيات الحرب، فيقاتل وهو يسلم روحه لمنهج عقائدي متماسك.

منذ أن اندلعت معركة “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لا تكاد تمر ساعة من دون مجزرة إسرائيلية إضافية مروعة في غزة، وهي مجازر صريحة، عبّر عنها الناطق الرسمي باسم “جيش” الاحتلال بقوله “نركز في هجماتنا على إلحاق الضرر وليس على الدقة”، رغم قدرة تكنولوجيا الحرب الغربية التي يملك المحتل أحدثها، على دقة التصويب بنسبة خطأ صفر، لكن الأولوية الإسرائيلية الآن لإلحاق الضرر، ما تسبب باستشهاد نحو ألف فلسطيني حتى الآن، معظمهم مدنيون عزل، تم قتلهم وهم نيام بعد قصف بيوتهم من الجوّ، والرقم مرشح للارتفاع بطبيعة الحال أضعافاً مضاعفة، في ظل التحشيد والجنون الإسرائيلي غير المسبوق ضد غزة.

يمتلك طرفا الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني، أو الغربي/الإسلامي، ثقافتين مختلفتين جذرياً في أخلاقيات الحرب، وهو ما يمكن تلمسه عبر تتبع النص الديني ابتداء، ثم الممارسة العملية الملتزمة بهذا النص، ولئن جاز استحضار واقع يعكس طبيعة النص الديني والممارسة التاريخية، فإن الصراع الراهن في فلسطين، التي تعدّ بؤرة صراع حضاري مكتمل الأركان، يلخص مجمل الفارق الأخلاقي بين الحضارتين الإسلامية ومركزها فلسطين، والغربية برأس الشر “إسرائيل”.
ففي النص الديني، تتفاخر التوراة باحتلال يشوع لمدينة أريحا، وذبح كل من وما في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف، وحرق المدينة بالنار مع كل ما فيها بعد أن قاموا بسلبها، كما تتباهى التوراة بما حدث لأهل مدين على أيدي اليهود وتقول: “وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وكل أملاكهم وأحرقوا جميع مدنهم ومساكنهم وجميع حصونهم بالنار”. وتتحدث التوراة عن إبادة مدينة عي الفلسطينية عن بكرة أبيها.

وفي الممارسة التاريخية المتصلة بالأثر الديني، رأينا المجازر الوحشية عام 1948، وتجاوز عددها 75 مجزرة، والتي تسببت مع فظائع حرب عام 48 بمقتل نحو 20 ألف عربي معظمهم من المدنيين، وبحسب تقرير لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عام 2019، فإن فرقاً من وزارة الدفاع الإسرائيلية أزالت منذ مطلع العقد الماضي، مجموعات من الوثائق التاريخية لإخفاء دليل النكبة والفظائع التي رافقتها، كما حاولت إخفاء شهادة من جنرالات حول قتل المدنيين وهدم القرى، أو تهجير البدو خلال العقد الأول من قيام الدولة.
وعام 2013، اكتشفت “مؤسسة الأقصى للوقف” وجود 6 مقابر جماعية تضم مئات الرفات والهياكل العظمية لشهداء ومدنيين قُتلوا خلال عامي 1936 و1948؛ وذلك خلال أعمال ترميم كانت تقوم بها المؤسسة في مقبرة الكزخانة في مدينة يافا. في المقابل، حفل النص القرآني والنبوي، بضوابط الحرب الأخلاقية، بما أحدث تغييراً جوهرياً في قواعد الحرب في الثقافة العربية التي كانت سائدة، ويتمثل أبرز هذه القيود الأخلاقية في الآتي:
أولاً: عدم قتل الشيوخ والنساء والأطفال
ثانياً: عدم قتل المتعبدين
ثالثاً: عدم الغدر بعد العهد
رابعاً: عدم الإفساد في الأرض
خامساً: الإنفاق على الأسير
سادساً: عدم التمثيل بالميت.
وهو ما يعكسه النص القرآني: ” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ”، “َمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا”، “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ”، “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً”، كما جزم فقهاء الإسلام بأن شرعية القتال في الإسلام هي الحرابة والمقاتلة والاعتداء، لا المخالفة في الدين، لأن غير المقاتلين من المدنيين لا يقتلون ولا يقاتلون، وإنما يسالمون وتُحمى أنفسهم ودماؤهم من ويلات الحرب، فحرّم قتلهم شرعاً، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا امرأةً”.

جاءت ملحمة “طوفان الأقصى” تحمل في اندفاعها تجربة سلسلة حروب تعرضت لها غزة، في أعوام 2008 و2012 و2014، و2019، و2021، و2022، و2023، نتج منها نحو 5 آلاف شهيد، معظمهم مدنيون عزل، كما جاء هذا الطوفان عقب سلسلة مجازر إسرائيلية بحق الفلسطينيين في الضفة، خاصة في جنين والقدس ونابلس، على مدار عاميّ 2022-2023، وهو ما حصد نحو 350 شهيداً، غالبيتهم كالعادة من المدنيين العزل.
وباعتبار أن ملحمة “طوفان الأقصى” استهدفت “جيش” الاحتلال وشرطته ومستوطنيه في غلاف غزة، فإن الالتباس الذي بات يتردد عبر العالم، أن المقاومة استهدفت المدنيين الإسرائيليين، مع العلم أن كل مدني في كيان الاحتلال يخضع لتجنيد عسكري، بعد بلوغ سن السابعة عشرة، ويشمل الرجال والنساء، بحيث يستمر للذكور 3 سنوات، وللنساء سنتين.
التجنيد الإجباري لكل إسرائيلي يجعل هذا المجتمع عسكرياً، خاصة أنه يشمل النساء، فكل مدنيّ في الكيان الإسرائيلي هو بالحقيقة عسكريّ بانتظار الاستدعاء للخدمة العسكرية باعتباره قوة بشرية مدربة تجاوز عددها ثلاثة ملايين، لـ”جيش” نظامي بلغ تعداده 464 ألف جندي، يضم قوة عسكرية عاملة تعدادها 173 ألف جندي، وهو ما يفسر الدعوة اليوم إلى تجنيد 360 ألف جندي من الاحتياط، وجلب المسافرين عبر سلاح الجو من أوروبا.

لذا، فالمفصل للقياس الأخلاقي في الملحمة الراهنة، لا يكون في الفصل بين العسكري الإسرائيلي والمستوطن، خاصة أن بيوت الإسرائيليين بمعظمها، إن لم يكن جميعها تغص بالسلاح الفردي، وغالبية الإسرائيليين تحمل المسدسات على جنوبها، وهو ما يفسر مقتل كثير من منفذي العمليات الفدائية في شوارع المدن والمستوطنات الإسرائيلية على يد مستوطنين غير مجندين، خاصة بعد تولي إيتمار بن غفير وزارة ما يسمى بالأمن الداخلي، وتحريضه الشارع الإسرائيلي بضرورة التسليح الشخصي، وهو ما قوبل بتعبئة شاملة في العامين الماضيين.

في المقابل، فإن الفلسطيني هو إمّا مدني ومواطن طبيعي لا يعرف شيئاً عن الحرب، خاصة في واقع أمني يجعل التسلح تهمة تزج مرتكبها في سجون الاحتلال، أو يكون عنصراً في أجهزة السلطة الفلسطينية، وهي خارج دائرة الصراع مع المحتل إلا في فترات قليلة مؤقتة، أو عضواً في واحد من الفصائل الفلسطينية المسلحة، سواء كتائب القسام أو سرايا القدس أو كتائب شهداء الأقصى، وهو هنا يخضع لتدريب كامل في غزة، بينما في الضفة لا يخضع سوى لتدريب جزئي نسبي محدود، بسبب واقع الضفة الخاضع للاحتلال المباشر، بينما في غزة توجد معسكرات تدريب غير نظامية.

بهذه الاعتبارات فالإسرائيلي، ذكراً كان أو أنثى، هو عسكري ما دام عمره تجاوز السابعة عشرة، ولم يبلغ سن الشيخوخة، سن الحرمة الشرعية في الاستهداف وفق المناط الإسلامي المعاصر في الصراع الراهن، بينما الفلسطيني المدني الأعزل ينطبق عليه القانون الدولي بهذا الاعتبار، وهو ما لا ينطبق على الإسرائيلي إلا وفق المزاج الدولي المنحاز.

ضمن هذا الالتباس، وفي ظل إعلام عالمي ظالم، فإن خير قياس يمكنه فضح الجريمة الإسرائيلية، وإنصاف المقاوم الفلسطيني، ليظهر الفرق الأخلاقي بينهما، تسليط الضوء على الضحايا من الأطفال، وهنا يجب السؤال عن عدد الأطفال الإسرائيليين الذين سقطوا منذ “طوفان الأقصى”، بل منذ عامين، وحتى منذ بدأ هذا الصراع.

رغم تجاوز عدد القتلى الإسرائيليين من الجنود والمستوطنين في ملحمة الطوفان، الألف قتيل حتى الآن، لم يظهر اسم طفل واحد بين الضحايا، فالقوائم تضم ضباطاً بل كبار الضباط، وجنوداً وشرطة ومستوطنين في سن الشباب غالباً، ويكفي للإشارة إلى ذلك شهادة الإسرائيلية الناجية روتم، وهي من سكان مستوطنة كِفار عزة، تتحدث عن اللحظة قائلة “بعد أن دخلوا قلت لهم باللغة الإنكليزية لدي ولدان، معي أطفال، وردوا علي بالقول: “نحن مسلمون لن نؤذيكم” وتضيف “هذا فاجأني وطمأنني أيضاً”، مكثوا في البيت ساعتين، من دون أن يمسوا المرأة وطفليها بسوء.

نموذج الإسرائيلية روتم، وشهادتها للقناة 12 الإسرائيلية، من أخلاقيات رجال المقاومة في ملحمة “طوفان الأقصى”، باعتبارهم مسلمين لا يؤذون النساء والأطفال، هي مثال خرج للعلن، ومثله ما لا يحصى تم التكتم عليه، ليظهر الإسرائيلي باعتباره الضحية، وهو ما ظهر عبر الإعلام الغربي، وخاصة قناة الـ”بي بي سي” وهي تتناول عدد الذين سقطوا من الإسرائيليين فتصفهم بالقتلى، ومن الفلسطينيين بالوفيات، فالإسرائيلي قتله الفلسطيني، لكن الفلسطيني توفي هكذا من غير سبب.

في مقابل خلوّ قوائم القتلى الإسرائيليين من الأطفال والشيوخ، حملت القوائم الفلسطينية أسماء المئات من الأطفال، ربما يتجاوز ربع الشهداء، ليس آخرهم هادي وعليّ وشام، أطفال الصحفية الفلسطينية سلام خليل، بعد نسف بيتهم وهم نيام، وهنا الفاصل القيمي الأساس، وهو متصل بأصل الرؤية، التي دفعت أحد المقاومين ليشير إليها وهو يدخل بيت مستوطن، ليجد فيه عجوزاً مريضة ومعها صبية، فطمأنهما أن الإسلام يحرّم المس بالعجزة وكبار السن، ولكن هذه الرؤية لم تصل عقيدة وزير الحرب يوآف غالانت الدينية ولا العسكرية، وهو يصف أهل غزة بالحيوانات على هيئة بشر.

وماذا عن دور العبادة؟ هل انتهك المقاومون حرمة الكنس اليهودية في عبورهم التاريخي لجدران الحصار الخانق على غزة في السابع من أكتوبر؟ لم يورد أي مصدر إسرائيلي ولا حتى دعائي شيئاً من ذلك، رغم أن أرض هذه الكنس مغصوبة شرعاً، بمعنى أنها مقامة على أرض خاصة لمواطن فلسطيني تمت مصادرتها منه قهراً، والمقاومة اجتاحت عشرات المستوطنات تضم عشرات الكنس، في المقابل، دمر الطيران الإسرائيلي 12 مسجداً، على رؤوس المصلين، كان آخرها مسجد الإمام علي بن أبي طالب في مخيم جباليا، حيث ارتقى ما لا يقل عن 16 شهيداً.

ليس المقاوم الفلسطيني ملاكاً، هو كائن بشري يقاتل بإمكانات بسيطة مقارنة بالإسرائيلي المدعوم من الغرب، دعماً غير مشروط، ولكنه في خضم توتره الميداني، وهو يقاتل غالباً بلا رجعة للحياة، يحافظ على شرف القتال، ويخشى في الله أن يسائله عن ضحية قتلها من دون حق، ولأنه ليس ملاكاً، فقد يقع في الخطأ أو تزل يده، فيبالغ في الطعن أو إطلاق النار، أو يضطر إلى إعدام أسيره، من باب أن الضرورات تبيح المحظورات، ولعل هذا ما دفع الناطق باسم القسام، للتهديد بإعدام أسير مقابل كل بيت يتم تدميره فوق رأس ساكنيه، باعتبار أنها الورقة التي قد تخلق شرخاً في الكيان تردعه عن وحشيته.

وهكذا يقف المقاوم الفلسطيني اليوم في مواجهة سياسة الأرض المحروقة، وهي تحرق غزة صبح مساء، ولكنه يحمل أخلاقيات الحرب، فيقاتل وهو يسلم روحه لمنهج عقائدي متماسك، يقول: “وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا…كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

 

نقلاً عن الميادين 

مقالات ذات صلة