معركة طوفان الأقصى.

حسن نافعة

استاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة

 

“طوفان الأقصى” هو التعبير الذي صكته حماس للدلالة على العملية العسكرية التي نفذتها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر الحالي، وهو تعبير موفق.
فالطوفان الذي أطلق في ذلك اليوم استطاع أن يجرف في طريقه صلف “إسرائيل” وغرورها واستعلاءها وعجرفتها، فيا له من طوفان مبارك!
و”الأقصى” الذي بارك الله حوله هو الرمز الذي حرصت حماس على أن يصبح عنواناً لهذا الحدث الكبير جاء ليذكّر الجميع بأن المقدسات الدينية الواقعة تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية تواجه خطراً حقيقياً بعد أن أصبحت عرضة ليس للتدنيس فحسب، وإنما للهدم والتدمير والإزالة أيضاً، خاصة وأن القادة الحاليين للحركة الصهيونية يعتقدون أن “دولة شعب الله المختار على أرضه الموعودة” لا تكتمل إلا بهدم المسجد الأقصى وإقامة “الهيكل الثالث” مكانه.

ما قامت به حماس، يوم السبت الماضي، لم يكن مفاجئاً لـ”إسرائيل” فحسب، نخبة وحكومة وجمهوراً، وإنما كان بمنزلة صاعق أصاب العالم كله من أقصاه إلى أقصاه بالذهول. فعمليات المقاومة كانت قبل ذلك التاريخ محدودة، سواء من حيث نطاقها الجغرافي، لأنها كانت تجري دائماً على أراض فلسطينية احتلت عام 1967، أو من حيث نتائجها الفعلية على الأرض، لأن خسائرها في الأرواح لم تكن تتجاوز الآحاد أو العشرات على أقصى تقدير، ولأن خسائرها المادية لم تكن تتجاوز مركبة هنا أو مصفحة هناك.
لذا، كان بمقدور “إسرائيل” أن تتعايش مع هذا الكم المحدود من الخسائر، بل وأن تكبّد الجانب الفلسطيني أضعاف ما تتكبّده هي، ما ولّد لديها إحساساً راسخاً بالقدرة على الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية المحتلة إلى الأبد، كما ولّد لديها قناعة بأنها باتت في مأمن عن أي ضغوط خارجية يمكن أن تمارس ضدها لإجبارها على الانسحاب من تلك الأراضي. صحيح أنها انسحبت من قطاع غزة عام 2005تحت تأثير ضربات المقاومة الفلسطينية المسلحة، لكن القطاع لم يتحرر، رغم هذا الانسحاب؛ لأنه كان بمقدور “إسرائيل” أن تتحكم في حياة سكانه ومصائرهم، حين فرضت عليه حصاراً خانقاً، بل ولم تتردد في شن الحرب عليه بين الحين والآخر لتجويعه وإفقاره وتحطيم إرادة سكانه ومعنوياتهم.
ما جرى يوم السبت الماضي لم يكن من نوع الأحداث التي اعتدنا عليها من قبل، ولذا سيكون له ما بعده، بل يمكن القول إن الأوضاع في المنطقة كلها قد تصبح مختلفة كلياً بعد هذا الحدث الكبير عما كانت عليه قبله.
ففي ذلك اليوم، قررت حماس أخذ زمام المبادرة والتخلي عن أسلوب رد الفعل، واستهدفت هذه المرة ضرب العدو داخل حصونه المنيعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة قبل 1948، وليس داخل الأراضي المحتلة عام 1967. لم يأخذ الهجوم هذه المرة شكل العمليات الفدائية التي اعتدنا عليها من قبل، وإنما أخذ شكل عملية عسكرية ضخمة تتسع لمشاركة ألف مقاتل دفعة واحدة ومن مختلف الوحدات البرية والبحرية والمظلات، وتستهدف السيطرة على مدن ومستوطنات كاملة، بكل ما فيها من ثكنات ومواقع عسكرية، وقتل أو أسر كل من فيها، ونقل أكبر عدد منهم إلى القطاع.

ولأن طول الحدود الفاصلة بين “إسرائيل” والقطاع يمتد إلى أكثر من 60 كيلومتراً، أقامت “إسرائيل” سياجاً عازلاً يبلغ ارتفاعه 7 أمتار ويتكوّن من صفوف عدة وحواجز مزودة بأحدث أجهزة الاستشعار والمراقبة الإلكترونية، فقد تطلب اجتياحه عملاً شاقاً تعين التخطيط له بدقة متناهية، كما تطلب تنفيذ هذا الاجتياح استخدام أجهزة ومعدات تشويش إلكترونية بالغة الدقة والتعقيد.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن هذا الاجتياح أدى إلى سقوط نحو ألف قتيل وما يزيد على 2500 جريح، وهو ما يفوق كثيراً ضحايا “إسرائيل” في حرب 67 التي خاضتها جيوش ثلاث دول عربية، من بينهم مئات القتلى والجرحى من العسكريين ورجال الشرطة، بعضهم يحمل رتباً كبيرة ويتولى مواقع قيادية في الجيش وفي أجهزة الأمن، لتبين لنا أن حماس حققت بالفعل إنجازاً يصل إلى حد الإعجاز، وبالتالي تمكنت من أن تلحق بـ”إسرائيل” ليس هزيمة عسكرية فحسب وإنما هزيمة استراتيجية وسياسية في الوقت نفسه. لذا، يتوقع أن يكون رد الفعل الإسرائيلي، المدعوم أميركياً وغربياً على الدوام، غاضباً وعنيفاً جداً، وهو ما بدأنا نلاحظه من خلال الغارات التي كان سلاح الجو الإسرائيلي ما يزال يشنها على قطاع غزة حتى كتابة هذه السطور.
ما حققته حماس في جولة الصراع الحالية يفوق بكثير، في تقديري الشخصي على الأقل، ما حققته مصر وسوريا في حرب 73، خاصة من حيث دلالاته الاستراتيجية والسياسية. صحيح أن خسائر “إسرائيل” في الأرواح والمعدات بلغت في حرب 73 أضعاف خسائرها الحالية، لكنها خاضت حرب 73 في مواجهة جيوش نظامية كبيرة.
ولأن “إسرائيل” استطاعت أن تعدل من مسار تلك المواجهة لصالحها في الأيام الأخيرة، خاصة بعد تمكنها من إحداث “ثغرة الدفرسوار” عقب تلقيها مساعدات مباشرة ضخمة من الولايات المتحدة الأميركية، فقد كان بإمكانها الادعاء بأنها انتصرت في نهاية المواجهة، رغم تلقيها هزيمة واضحة في بدايتها، وهو ما لن تستطيعه هذه المرة حتى لو تمكنت من تدمير قطاع غزة بالكامل بواسطة سلاح الجو الذي تتمتع فيه بتفوق ساحق.
الوسيلة الوحيدة التي قد تسمح لـ”إسرائيل” بالادعاء بأنها استطاعت تحقيق النصر في جولة المواجهة الدائرة حالياً، رغم النكسة الكبرى التي لحقت بها في البداية، هي أن تتمكن ليس من نزع سلاح حماس فحسب وإنما أيضاً من إسقاط حكمها في غزة، وهي أهداف ليست قابلة للتحقيق إلا إذا تمكنت من السيطرة برياً على قطاع غزة، ما يعني إعادة احتلاله وربما البقاء فيه لسنوات عديدة قادمة، الأمر الذي سوف يكلفها بالقطع خسائر بشرية ضخمة قد لا تستطيع تحملها. لذا، يمكن القول إن “إسرائيل” تواجه مأزقاً أظن أنها لن تستطيع الإفلات منه.
لقد قامت “إسرائيل” باستدعاء أكثر من 300 ألف مقاتل من جنود الاحتياطي، ما يوحي بأنها تستعد لمواجهة واحد من احتمالين، الأول: إعادة احتلال قطاع غزة باعتباره الوسيلة الوحيدة التي تمكنها من نزع سلاح حماس وإسقاط حكمها في قطاع غزة، والثاني: دخولها في مواجهة إقليمية واسعة النطاق، قد يشترك فيها حزب الله وربما أطراف إقليمية أخرى، ما يعني خوض حرب متعددة الجبهات في الوقت نفسه، وهو الاحتمال الأرجح. 

فقد سارعت الولايات المتحدة الأميركية إلى تقديم مساعدات فورية لـ”إسرائيل”، لم تقتصر على إمدادها بالمال والمعدات العسكرية، وإنما قامت في الوقت نفسه بإرسال قطع بحرية إلى المنطقة لتكون قريبة من الشواطئ الإسرائيلية.
 صحيح أن الولايات المتحدة ليس لها مصلحة في اندلاع حرب واسعة النطاق في هذه المنطقة من العالم، لأن ذلك من شأنه تشتيت انتباهها والحيلولة دون تركيز نشاطها على الحرب الدائرة حالياً على الساحة الأوكرانية، وهو ما تسعى لتجنبه بكل الوسائل الممكنة.
 لذا، يبدو لي أن الهدف من مسارعتها في إرسال قوات إلى المنطقة هو ردع حزب الله عن المشاركة في الحرب التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة، حتى لو قامت الأخيرة باجتياح القطاع برياً، وهو أمر يصعب تصوره.
 فحزب الله يدرك يقيناً أن نجاح “إسرائيل” في إسقاط حكم حماس في غزة يعني توجيه ضربة قاصمة لكل فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة برمتها، وهو إن حدث فسوف يتيح لـ”إسرائيل” والولايات المتحدة الفرصة لتركيز جهودهما على الجبهة اللبنانية بهدف إعادة تشكيل مفردات المعادلة السياسية القائمة هناك حالياً، ما سينعكس بالضرورة على سوريا، ما قد يعني التفرغ لتصفية كل حلفاء إيران الواحد تلو الآخر.

لا يتسع المقام هنا لتحليل مختلف السيناريوهات المتوقعة للحرب التي تشنها “إسرائيل” الآن على قطاع غزة، لكن احتمال خروجها من هذه الحرب منتصرة يبدو لي احتمالاً ضعيفاً وغير قابل للتحقيق. فالمعيار الوحيد لانتصارها، من وجهة نظرها على الأقل، يستند إلى مدى قدرتها على احتلال غزة ونزع سلاح حماس وإسقاط حكمها هناك، وهو أمر مشكوك فيه، ليس بسبب ارتفاع تكلفته بما يتجاوز قدرة “إسرائيل” على احتماله فحسب، وإنما أيضاً وعلى وجه الخصوص بسبب استحالة وقوف حزب الله مكتوف الأيدي وهو يرى المقاومة الفلسطينية المسلحة تستأصل. فلن يكون لذلك سوى معنى واحد، وهو أن حزب الله نفسه قد يصبح الضحية القادمة. لذا، أظن أنه لن يكون أمام “إسرائيل” سوى الاختيار من بين بديلين كلاهما مر:
الأول: وقف الحرب، مع الاكتفاء بتوجيه ضربات جوية أكثر ضراوة وقسوة ما قام به “الجيش” الإسرائيلي في الجولات السابقة، ما سيعني في النهاية أنه هزم على يد حماس لأنه لم يستطع نزع سلاحها
والثاني: الدخول في حرب إقليمية شاملة، وهو ما قد يشكل إما بداية النهاية لـ”إسرائيل”، أو يدفع بالعالم كله نحو حافة حرب نووية لا يريدها أحد.

 

نقلاً عن الميادين

مقالات ذات صلة