هل تختصر “إسرائيل” هدف الحرب باستعادة الأسرى؟

 

 

بعدما فشلت “إسرائيل” في تحقيق 3 أهداف في جنوب لبنان، لماذا لا يمكنها تحقيق هدف وحيد هذه المرة في غزة؟

محمد فرج 

 

القصف الجوي الإسرائيلي لقطاع غزة مستمر ولا يهدأ. ليس هناك معيار يمكن تحديده في منطق القصف. لا بنك أهداف ولا غيره. وحده الانتقام وجنون استعادة الصورة يرسمان مسار الطائرات الحربية والقذائف العمياء التي تلقيها “إسرائيل” على مدرسة أو بيت أو مستشفى أو مخازن للأونروا.
لكن الجنون وحده لا يكفي لتحديد نتيجة الحرب أو تحديد كيفية انتهائها ولا الخطوط الاستراتيجية العامة لما بعدها. في السابع من تشرين الأول/أكتوبر بعد انطلاق “طوفان الأقصى”، اعتقد المراقبون أن “إسرائيل” انتظرت ساعات من غير ردّ، لأنها كانت تستوعب الصدمة وتصوغ ردّها بإتقان، والأهم أنها كانت تحدد قائمة أهداف محددة من الحرب التي سوف تشنها لا محالة. خرجت علينا حكومة الاحتلال المفكّكة وهيئاتها الأمنية المتصارعة بهدف واحد: “تدمير حماس”!
دروس تموز لم تصل إلى “إسرائيل” بعد؛ فبعد تنفيذ حزب الله عملية “الوعد الصادق” عام 2006م، بدأت الغارات على لبنان مباشرة، وحدّدت “إسرائيل” 3 أهداف لم تتحقق إلى يومنا هذا (تدمير القوة العسكرية لحزب الله قبل أن تصل إيران إلى عتبة القوة النووية، وإعادة المصداقية إلى قوة الردع الإسرائيلية في الشمال على الحدود مع لبنان، وإضعاف قوة حزب الله سياسياً داخل حدود الدولة اللبنانية).
لكن بعدما فشلت “إسرائيل” في تحقيق 3 أهداف في جنوب لبنان، لماذا لا يمكنها تحقيق هدف وحيد هذه المرة في غزة؟
يعود ذلك إلى سببين: الأول أن تحقيق هذا الهدف يتطلب عملية برية ناجحة تدمر المقاومة الفلسطينية وبنيتها التحتية عسكرياً، وإجراءات إدارية سريعة تدمرّها أو تستبدلها سياسياً، وهو الأمر غير الممكن، كما سنوضح لاحقاً، والثاني هو أن اندلاع الحرب الإقليمية والشاملة واتساع رقعة الحرب أقرب زمنياً ومنطقياً من تدمير المقاومة الفلسطينية، نظراً إلى ما يعنيه حضور القسّام وباقي فصائل المقاومة في معادلة المواجهة بالنسبة إلى محور المقاومة بأكمله. 

الطريق البرية غير معبّدة 

إذا كانت قوات الاحتلال قد استعادت جزءاً من “صورة” الردع المهشّمة، بعدما استخدمت الطاقة الكاملة من إمكانياتها الجوية في قصف المباني وقتل المدنيين، فإنها سوف تخسره حال دخولها في عملية برية كاملة.
 لقد أوسع المراقبون هذه النقطة شرحاً وتفصيلاً، لجهة عدم قدرة قوات الاحتلال على التعامل مع مسارات طويلة وسرية ومعقدة من الأنفاق، وكمّ الأفخاخ والكمائن التي قد تكون في انتظارها، والتي من الممكن أن يتزايد عددها مع هامش الوقت الذي يمنحه التردد الإسرائيلي في الدخول. حتى الركام الذي أحدثته طائرات الاحتلال سيكون عائقاً آخر أمام دباباته وآلياته البرية وحركة الجنود المشاة. أضف إلى ذلك أن الضغط الدولي بدأ يتزايد لوقف العدوان، وإن كان الموقف العام في بداية الحرب منحازاً ومرتخياً.
عندما صافح نتنياهو جنود الاحتلال وسألهم عن استعدادهم للدخول البري، ارتسمت على وجوههم في الفيديو ملامح الخوف والارتباك. نحن نتحدث عن جيل جديد من قوات المشاة (1) بعضه يخوض تجربته الأولى في الحرب البرية، لأن تياراً واسعاً لم تعد تنطبق عليه شروط قوات المشاة (2)، وبعضه الآخر شهد حرباً برية جدية واحدة، هي حرب تموز عام 2006م، وذاكرتها ليست رصيداً معنوياً جيداً لجنود الاحتلال لخوض معركة ثانية (3)، وبعضه شارك في الاجتياحات البرية غير الكاملة في غزة أعوام 2009 و2014 ، وهذه لا تشكّل رصيد خبرة كافياً للتعمق أكثر في غزة التي تغيّرت كثيراً وتطورت فيها قدرات المقاومة.
إلى جانب الإشكاليات الفنية في الحرب البرية، فإن “إسرائيل” عاجزة عن إحداث تغييرات إدارية في غزة تساهم في تحقيق هدف تدمير حماس. يمكن اختصار السياسة الإسرائيلية تجاه المقاومة الفلسطينية، وبالتحديد حماس، خلال السنوات الماضية كالتالي:
(1) منذ الانسحاب من غزة عام 2005م، إدخال المقاومة في حالة من الارتخاء، وبالتالي العزوف عن تطوير القدرات الصاروخية والاستكانة إلى حين الوصول إلى نقطة الضمور، وهذا ما لم ينجح، وحدث العكس!
(2) تزامن ذلك مع محاولات “إسرائيل” إدخال أهالي القطاع في مناخ نفسي من البحث عن الرواتب والأوضاع المعيشية الأفضل تؤمنه السلطة، وليس حماس أو المقاومة، وهذا أيضاً لم ينجح، وحدث العكس!
(3) محاولة احتواء المقاومة عبر جولات دورية من الحروب والاجتياح الجزئي أعوام 2008 و2014 تساعد على تأليب بيئة المقاومة عليها وتعيد قدرات المقاومة فنياً إلى الوراء لسنوات، وهذا أيضاً لم ينجح.
(4) تقديم الإغراءات الاقتصادية وخطط الإنعاش الاقتصادي ضمن معادلة لابيد بعد معركة “سيف القدس”: “الاقتصاد مقابل الأمن”، وهذا أيضاً لم ينجح.
الآن، تعترف “إسرائيل” بأن كل ذلك لم ينجح، وأن الحلول التدريجية التراكمية البطيئة فشلت، وتريد تنفيذ الهدف من خطط مجموع عمرها الزمني 17 عاماً، وتريد تنفيذه بأيام حرب، ودفعة واحدة! 

خيالات الحرب الشاملة تكبح طموحات التوغل البري الكامل 

تتردد الخطوات الإسرائيلية في الدخول إلى حرب برية، وتخشى “إسرائيل” من أن تجد نفسها بشكل مفاجئ في أتون حرب إقليمية متعددة الجبهات، والحسابات الإسرائيلية بهذا الخصوص تركز على مؤشرين: (1) آفاق الدعم الأميركي في أي مواجهة ممكنة (2) وحدود التنسيق على مستوى محور المقاومة وإمكانية فتح جبهات جديدة، تحديداً من الشمال.
هنالك عدد من المؤشرات لحجم الإسناد الأميركي للاحتلال، ومنها:
(1) نقل حاملة الطائرات جيرالد فورد إلى شرق المتوسط، وهي المجهزة بدرع صاروخي استثنائي.
(2) تركت الولايات المتحدة أحداث العالم (أو أقله قلّلت التركيز عليها)، وفرّغت بلينكن لجولاته المكوكية بين “إسرائيل” والأردن ومصر والسعودية وقطر، ليعود بعدها مجدداً إلى “إسرائيل”.
(3) ظهور رئيس الولايات المتحدة السريع في التعليق على الموضوع وتقديم الدعم لـ”إسرائيل” يعني الكثير، وربما كان ذلك أسرع من رد فعل نيكسون الذي كان نائماً عند بدء هجوم أكتوبر عام 1973م.
(4) زيارة المشرف على القيادة الوسطى للقوات الأميركية (التي تم نقل “إسرائيل” إليها قبل أكثر من سنتين).
(5) ما نقلته صحيفة “وول ستريت جورنال” عن تخصيص البنتاغون 2000 جندي أميركي لدعم التوغل البري الإسرائيلي في غزة.
لا تبحث “إسرائيل” عن دعم أميركي محدود، إنما تبحث عن دعم يشبه الجسر الجوي في تشرين الأول/أكتوبر 1973م أو على الأقل الحضور القريب من 150 ألف جندي أميركي، كما كانت الحال في حرب تموز 2006م، مع عدم التشكيك في الدعم الأميركي المفتوح للعدوان الإسرائيلي الهمجي، إلا أن هذا الدعم مرتهن أيضاً لحسابات أميركية وقيود تعيشها الإمبراطورية المتراجعة أساساً، ومنها:
(1) منذ لحظة باراك أوباما (pivot to Asia)، تراجع عدد القوات الأميركية في المنطقة، وهذا ما تظهره تقارير وزارة الدفاع الأميركية التي تظهر بدقة زيادة عديد القوات في اليابان وألمانيا مثلاً على حساب عديد القوات في الشرق الأوسط بشكل واضح، فهل يسمح تراجع التمركز الأميركي بأن تشارك بنفسها في حرب شاملة؟
(2) عندما نقلت الولايات المتحدة “إسرائيل” من القيادة الأوروبية إلى القيادة المركزية للقوات الأميركية، وأتبعت ذلك بحوارات أمنية في المنطقة بهدف تأسيس “ناتو عربي”، كانت تهدف إلى صيغة أمنية في الشرق الأوسط تقودها “إسرائيل” وتخدم مصالح الولايات المتحدة، وتكون المساعدة الأميركية بحسب الطلب، وفي اللحظات الحرجة (Assistance on demand). هذه الصيغة تساعد الولايات المتحدة في الالتفات إلى أماكن أخرى في العالم في الباسيفيكي وحدود روسيا.
(3) الجدل الداخلي الأميركي كان يدور خلال الفترة الماضية عن إمكانية الولايات المتحدة أن تخوض حربين؛ واحدة في أوكرانيا ضد روسيا، والأخرى في تايوان ضد الصين. ماذا لو تضخم السؤال ليصبح: هل تستطيع الولايات المتحدة أن تخوض 3 حروب معاً؟
(4) في ظل أزمة الطاقة وتبعاتها، تحديداً على حليف أميركا الأوروبي، ماذا سيعني خوض معركة في الشرق الأوسط في ظل أزمة الطاقة العالمية الناجمة عن الحروب؟
هذه المحددات تدفع الولايات المتحدة إلى محاولة تجنب سيناريو الحرب الإقليمية الشاملة التي، إن حدثت، لا تبدو الولايات المتحدة قادرة على تقديم الإسناد الكامل فيها لـ”إسرائيل”.
أما بالنسبة إلى الجبهات الأخرى، فمن الواضح أن الهجوم الدقيق الذي نفذه حزب الله في جبهة الشمال منذ بداية “طوفان الأقصى” دليل على استعداد كامل لخوض هذه المعركة إن تطلب الأمر.
ذهبت “إسرائيل” أم لم تذهب إلى خيار التوغل البري، فإنها ستجد نفسها مضطرة إلى خفض سقف الهدف الذي وضعته لنفسها من الحرب، والذي ربما سيختصر في ملف الأسرى بيد المقاومة الفلسطينية. أما الذهاب إلى حرب شاملة، فسيبعثر كل الملفات، بحثاً عن خريطة جديدة للشرق الأوسط لن تكون حتماً على المقاس الإسرائيلي ولا حتى الأميركي.
في ميدان علوم الإدارة التي تشمل القيادة العسكرية كذلك، أحد أهم عناصر النجاح هو تحديد الأهداف الذكية (S.M.A.R.T Objectives)، التي تعني أن تكون الأهداف محددة (Specific) وقابلة للقياس (Measurable) وقابلة للإنجاز (Achievable) ومرتبطة ببعد استراتيجي (relevant) ومحدد في إطار زمني (Time bound) .. ما زالت “إسرائيل” لا تجيد صياغة أهدافها بعقل بارد، على عكس من هو في ذروة تركيزه اليوم، ليصوغ الأهداف، كعادته، بدقة وبعقل بارد وقلب دافئ.

 

المقال لا يعبر عن سياسة الموقع، وإنما ضمن خطة التضامن مع فلسطين المحتلة.  

مقالات ذات صلة