قصف مستشفى المعمداني عوضاً من الغزو البري: الاحتلال “يثأر” بدناءة

مستشفى المعمداني ـ غزة

يعترف الإعلام العبري ذاته بأن “المجتمع” الإسرائيلي كان متعطشاً إلى الانتقام، بصورة جنونية وغير مسبوقة، وكان يُحصي خلف الآلة الإعلامية العسكرية عدد القتلى في غزة.

السيد شبل

كاتب مصري

منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وعلى مدار عشرة أيام، بحث بنيامين نتنياهو عن عمل عسكري يكون موجَّهاً ضد أصحاب الأرض من الفلسطينيين، يسترضي عبره التكتلات الصهيونية المتطرفة. كان الخيار الأول يتمثل بالغزو البري لقطاع غزة من شماليّه، لكن بسبب صعوبة المهمة، لجأ الاحتلال إلى خيار “المجزرة”، فكان قصف مستشفى المعمداني عبر سلاح الجوّ الإسرائيلي.
أصاب الصاروخ الأميركي، الذي تم إطلاقه من طائرة أميركية يقودها طيّار إسرائيلي، ساحة المستشفى التابع للكنيسة الأسقفية الأنغليكانية في القدس، والذي كان فيه أعدادٌ كبيرة من الجرحى والنازحين المدنيين، فسقط المئات شهداء وجرحى، أغلبيتهم من النساء والأطفال.
هنا حدثت المذبحة/المجزرة/العنف الجنوني، وتلوّنت الأرض بلون الدم الفلسطيني. بكى العرب وأحرار العالم على صور الأطفال الشهداء، لكن الحدث ذاته، في الجهة المقابلة، وداخل الأراضي المحتلة، كان “يوم الثأر” بالنسبة إلى المتطرفين الصهاينة، الذين لم يهدأ لها بال منذ الانتصار الذي حققته عناصر المقاومة خلال عملية “طوفان الأقصى”.
يعترف الإعلام العبري ذاته بأن “المجتمع” الإسرائيلي كان متعطشاً إلى الانتقام، بصورة جنونية وغير مسبوقة، وكان يُحصي خلف الآلة الإعلامية العسكرية عدد القتلى في غزة، ليعقد مقارنة بين “السيوف الحديدية” و”طوفان الأقصى”، وأنه كان متلهفاً إلى سماع خبر يروي عطشه إلى الدماء، أو بتعريفٍ عبريّ آخر: إلى “النصر”.
هنا، يستوي اعتراف “جيش” الاحتلال بقصف المستشفى وإنكاره، لأن الكيان الإسرائيلي، في عنصريّته ودمويّته الفطريّتين، فارتوى من دماء النساء والأطفال التي سالت في حي الزيتون، وكفاه ذلك، كما نام المستوطنون قريري الأعين في ليلة السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر، بعد أن شاهدوا ملايين العرب، بعد أن اسودّت وجوههم وسالت الدموع من أعينهم، بعد أن عاشوا أياماً نشوة الانتصار.
طوال “تاريخ” الإسرائيليين القصير في فلسطين، كانوا دوماً يعتمدون سياسة “إرهاب الآخر” و”جزر العمل المقاوم”. فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي، كانت عقلية العصابات الصهيونية تتمحور حول ارتكاب كل صور العنف الممكنة لإرهاب العرب الآخرين نفسياً، حتى وإن لم تطَلْهم يد العنف مباشرة، ثم الرد على أي عمل مقاوم بدناءة وبلا أخلاق لإقناع الجميع بالتكلفة العالية لأي محاولة للتحرر من الاحتلال.
الأزمة أن الإعلام المؤيد للقضية الفلسطينية كثيراً ما تورّط في خدمة السياسة الصهيونية، عبر التركيز على وحشية العدو وإجرامه دونما إشارة إلى قدرة المقاومة على تهذيب الوحش وتقليم أظافره وإخضاعه، فترسّخ لدى العرب عددٌ من الأساطير بشأن القدرات الاستثنائية للاحتلال، بينما التجارب، تلو الأخرى، تؤكد أن “إسرائيل” ليست سوى كيان هش وممزّق داخلياً، وخاوٍ عقائدياً وسهل الهزيمة.

وحدة صفّ المقاومة.. وإفساد مخططات الغزو البري

أدلّ شيء على ضعف الاحتلال الإسرائيلي هو عدم قدرته على توجيه ضربة إلى قوى المقاومة في الميدان، وكان قادة الاحتلال زعموا قدرتهم على الدخول براً إلى قطاع غزة لاقتلاع كتائب القسام وسرايا القدس من الجذور، بينما الواقع أنه حتى الساعة لا تزال صواريخ المقاومة تنطلق من غزة في اتجاه الأراضي المحتلة، وتؤتي ثمارها.
المحللون الإسرائيليون لم ينكروا أن حزب الله كان العامل الفارق، حتى الآن، في تعطيل المخططات الصهيونية لغزو قطاع غزة، لأن جيش الاحتلال يشعر بالقلق من زحف قوى المقاومة في لبنان، وفتح جبهة كاملة في الشمال، في الوقت الذي تكون أغلبية القوات البرية التابعة للاحتلال جاهزة للزحف إلى غزة.
والحقيقة أن حزب الله لم يتوقف عن المشاركة منذ بداية الحرب، وبقيت هجماته تهدد العدو الإسرائيلي، وتشتت جهده في أكثر من جبهة. وبالتالي، فإن “تل أبيب” تشعر بالخطر من أن يصعّد الحزب مشاركته إذا تم الهجوم براً على غزة.
أمّا العامل الآخر، فهناك اعتراف عميق بضعف “جيش” الاحتلال الإسرائيلي، وخصوصاً مع غياب الأسس العقائدية عند كثير من الجنود والضباط الشبّان، كما أن “الجيش” لم يخض حرباً كهذه منذ عقود. وبالتالي، فإن الاندفاع إلى التدخل في قطاع غزة، من دون تدريب كافٍ، قد يؤدي إلى خسائر أكبر، على نحو يعني ضياع مزيد من “هيبة الجيش”.
أمّا العامل الثالث فهو غياب عنصر المفاجأة الاستراتيجية، ففصائل المقاومة في غزة هي التي بدأت هذه الحرب، ولا بد من أنها أعدّت ما يكفي من الخطط، التي ستحوّل الأحلام الإسرائيلية إلى كوابيس. وكان المتحدث باسم “القسام، أبو عبيدة، قال “إن دخول العدو غزة سيكون فرصة جديدة من أجل محاسبته بقسوة على ما ارتكبه في حقنا”.
أمّا العامل الرابع فهو الضغط العربي، وهو ضغط يهدد كل مسار “السلام” الذي سعت نحوه، وحافظت عليه “تل أبيب” طوال كل تلك العقود. فمع ارتفاع أرقام الضحايا في غزة، والتي من المرجح أن تتضاعف أكثر وأكثر مع الغزو البري، ستكون الحكومات العربية تحت ضغط شعبي كبير، على نحو سيدفعها إلى اتخاذ مواقف أكثر حدّة تجاه “إسرائيل”.
حتى الولايات المتحدة، الحليفة الأهم للكيان، ستكون مضطرة إلى الضغط حينها على “إسرائيل”، حتى لا تخسر كل أوراقها في الشرق الأوسط، وهو أمر أصبح شديد الحساسية للإدارة الأميركية مع صعود تأثير روسيا والصين في القضية الفلسطينية ذاتها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن المصالح الأميركية باتت مهدَّدة بدرجة كبيرة بسبب انحيازها للاحتلال الإسرائيلي، ففصائل المقاومة في العراق لم تتردد في توجيه الضربات إلى قاعدة “عين الأسد” غربي البلاد، والتي تضم قوات للتحالف الدولي، كما أن السفارات الأميركية باتت مقصداً لكل المتظاهرين العرب، وأصبحت حياة الدبلوماسيين الأميركيين في خطر.
أمّا العامل الخامس، والأخير، فهو المخاوف الداخلية بشأن الأسرى الإسرائيليين في غزة، وهي ورقة مهمة في قبضة المقاومة.

هل انتهت المعركة؟

يدرك الجميع أن المعركة لن تنتهي إلّا بتحرير فلسطين، فالواقع أن “إسرائيل” بمثابة فيروس دخيل في جسد المنطقة، وسيبقى هذا الجسد في مقاومة شرسة لتحرير ذاته مما أصابه، وقد يربح جولة ويخسر أخرى، لكن المعركة لن تنتهي.
وبدأت فصائل المقاومة في غزة تلك الجولة في عملية “طوفان الأقصى”، والتي تُعَدّ عملاً استثنائياً في تاريخ العمليات الفدائية، ويحاول العدو الإسرائيلي أن يُنهيها، عبر رسالتين:
الأولى، أنه كيان وحشي ولاأخلاقي، ويمكن له أن يقصف المستشفيات والمدارس، ويستهدف النساء والأطفال، محاولاً بذلك إرهاب الرأي العام العربي وإرباكه، عبر إشعاره بالتكلفة العالية لعمليات المقاومة. وهنا، يربط البعض بين قصف مستشفى المعمداني يوم الـ 17 من الشهر الجاري، ووصول صواريخ المقاومة إلى القدس قبله بيوم، وقطع جلسة الكنيست مع تفعيل صفارات الإنذار.
الثانية: أن لديه “جيشاً” قوياً وطائرات قادرة على هدم قطاع غزة في أيام، وأن لديه حشوداً من الجنود والمدرعات تستطيع تنفيذ غزو بريّ، إن تطلّب الأمر.
في المقابل، تواصل المقاومة في فلسطين ولبنان عملياتها، ولا يزال المستوطنون الإسرائيليون يفرّون إلى المطارات أو ينزحون داخل الأراضي المحتلة، وصفارات الإنذار لا تكفّ عن العمل. عبر هذا، تؤكد المقاومة قدرتها على تحديد موعد انتهاء تلك الجولة القتالية وفق مخططاتها ووفق ما تقتضيه المعركة برمتها، وليس في الوقت الذي يريده العدو الإسرائيلي.
كذلك، نجحت الأحداث المتتالية، طوال الأيام الماضية، في إعادة القضية الفلسطينية إلى الصدارة مرة أخرى على المستوى العربي، حتى بات عدد من المحللين يتحدثون عن بداية “الربيع العربي” الحقيقي، الذي تُوجَّه فيه طاقات الغضب في اتجاه الاحتلال والقوى الغربية التي تحميه وتسانده.
هذه الجولة من القتال أعادت المشهد العربي برمته إلى جادة الصواب. حتى الحكومات المنخرطة في التطبيع، والتي كان يتبجح إعلامها في الحديث عن انتهاء “عصر اللغة الخشبية”، أصبحت مضطرة اليوم إلى أن تَدين السلوك الإسرائيلي وإعلان الدعم للفلسطينيين.
وأيّا يكن الوقت، الذي ستنتهي فيه هذه الجولة القتالية، فإن الذاكرة العربية لن تنسى ثلاثة أمور:
الأول، دناءة الاحتلال الناجمة عن هشاشة موقفه وعدم قدرته على الرد في الميدان الحقيقي.
الثاني، صلابة المقاومة وقدرتها على توجيه الضربات إلى العدو في عقر داره.
الثالث، قوة حضور القضية الفلسطينية لدى الشعب العربي برمته، وعبر مختلف أجياله، على رغم كل المحاولات التي حدثت من أجل اختراق الوعي العربي وكيّه.

مقالات ذات صلة