مآلات المواجهة الأفريقية الإسرائيلية في لاهاي

متابعات – وكالات عربية

 

 

من المتوقع أن تعمل “إسرائيل” على استمالة الأطراف الدولية المختلفة من أجل رفض أي حكم صادر عن المحكمة يدينها والتشكيك فيه وفي صحته.

كاتب عربي

 

 

بدأت محكمة العدل الدولية، يوم الخميس 11 يناير 2024، في النظر بشكوى مقدمة من جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل”، تتهمها فيها بارتكاب “إبادة جماعية” في قطاع غزة، وانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، علماً أن جنوب أفريقيا و”إسرائيل” -طرفَي الدعوى- وقعتا على اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948. 

وقد قدمت جنوب أفريقيا شكواها إلى المحكمة في 84 صفحة، وطالبت من خلالها قضاة المحكمة بإصدار أمر عاجل لـ “إسرائيل” بـ”التعليق الفوري لعملياتها العسكرية” في غزة. ومن المرجح أن تستغرق القضية الكاملة سنوات. ومع ذلك، يمكن إصدار إجراء مؤقت في غضون أسابيع.

تعدّ هذه المحكمة، التي تأسست عام 1945، الكيان القضائي الرئيسي على المستوى الدولي، وتختص بالقضايا المرتبطة بالدول الأعضاء التي يبلغ عددها 191 دولة أو المنظمات الدولية، فيما تختص المحكمة الجنائية الدولية بالقضايا المتعلقة بالأشخاص أو الجماعات. 

تتألف هذه المحكمة حالياً من 15 قاضياً يخدمون لمدة 9 سنوات، هم من الولايات المتحدة وروسيا والصين وسلوفاكيا والمغرب ولبنان والهند وفرنسا والصومال وجامايكا واليابان وألمانيا وأستراليا وأوغندا والبرازيل. 

تترأس هذه المحكمة حالياً القاضية الأميركية جوان دوناهيو، التي تشغل هذا المنصب منذ عام 2021. أما نائب رئيسة المحكمة، فهو القاضي الروسي كيريل جيفورجيان، الذي كان له موقف لافت سابقاً، حين اعترض على محاولة عرض ملف التدخل الروسي في أوكرانيا على هذه المحكمة العام الماضي.

كذلك، تضم هيئة المحكمة عدداً من القضاة العرب والمسلمين، إضافة إلى قاضٍ يهودي، وهم محمد بنونة من المغرب، وعبد القوي أحمد يوسف من الصومال، ونواف سلام من لبنان، إلى جانب الفرنسي روني أبراهام، وهو يهودي معروف بانتقاده سياسات “إسرائيل”.

 يضاف إلى القضاة الخمسة عشر في هذه القضية، قاضيان يمثلان الأطراف الخلافية. وبذلك، يصل عدد القضاة في هذه القضية إلى 17. 

وقد عينت جنوب أفريقيا ديكجانغ موسينيكي، النائب السابق لرئيس المحكمة العليا، في حين عينت “إسرائيل” أهارون باراك الرئيس السابق للمحكمة الإسرائيلية العليا.

على المستوى الإجرائي، يجوز لقضاة المحكمة أن يقدموا حكماً مشتركاً أو أحكاماً مستقلة بحسب آراء كل منهم، وتؤخذ القرارات وتقدم الاستشارات وفق نظام الأغلبية. وفي حال تساوت الأصوات، يعد صوت رئيس المحكمة مرجحاً. 

والجدير بالذكر أن الجمعية العامة للأمم المتحدة سبق أن طلبت في ديسمبر الماضي رأياً استشارياً من محكمة العدل الدولية بشأن العواقب القانونية للاحتلال الإسرائيلي المطول للضفة الغربية وقطاع غزة، وهو الطلب الذي تم اعتماداً على نتيجة رأي استشاري مماثل قدمته المحكمة عام 2004، وأفاد بأن مسار الجدار العازل الذي تبنيه “إسرائيل” في الضفة الغربية ينتهك القانون الدولي وينبغي تفكيكه.

الطلب الذي تم تقديمه في ديسمبر الماضي، قدمته جنوب أفريقيا بالتعاون مع دول أخرى، ومن المقرر أن تعقد المحكمة جلسات استماع عامة بشأن هذا الطلب بدءاً من 19 فبراير 2024.

تحركات جنوب أفريقيا القضائية لم تقتصر على محكمة العدل الدولية، فقد سبق أن أحالت بالتعاون مع بنغلاديش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي ملف الوضع في فلسطين إلى المدعي العام لـ”المحكمة الجنائية الدولية” في نوفمبر 2023، وطالبت حينها مدعي عام الجنائية الدولية كريم خان بالتحقيق في جريمة الإبادة الجماعية من بين الانتهاكات الجسيمة الأخرى في فلسطين بهدف توجيه الاتهام إلى الأفراد المسؤولين، وهو ما لم يتم اتخاذ أي إجراءات واضحة فيه، رغم زيارة خان “إسرائيل” والأراضي الفلسطينية في ديسمبر الماضي.

فيما يتعلق بمدى إلزامية أو نجاعة القرارات الصادرة عن هذه المحكمة، يمكن القول إن كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تعد عضواً -بحكم الأمر الواقع- في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، بحسب المادة 93-1 من ميثاق الأمم المتحدة، لكن قبول اختصاص محكمة العدل الدولية يبقى اختيارياً، وهذا يعني أن على الدول أن توافق بالتحديد على إحالة القضايا القانونية أو ملفات النزاع مع دول أخرى إلى هذه المحكمة.

وبمجرد أن تقبل الدول اختصاص محكمة العدل الدولية بشأن دعوى ما، وتقبل السلطة القضائية الإلزامية لها، تكون هذه الدول تلقائياً ملزمة بقراراتها، علماً أن الولايات المتحدة سحبت اعترافها بالسلطة القضائية الإلزامية لهذه المحكمة، ما يعني أنها تلتزم بما تقبله من قرارات المحكمة وتتنصل مما لا تقبله منها.

يضاف إلى ذلك عدم امتلاك محكمة العدل الدولية آليات تنفيذية من أجل إنفاذ أحكامها وقرارتها، ففي مارس 2022، أصدرت المحكمة حكماً بالتعليق الفوري للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، لكن لم يتم تنفيذ هذا الأمر نظراً إلى عدم وجود آليات قانونية واضحة لدى المحكمة لإجبار موسكو على تنفيذ هذا الحكم. وبالتالي قياساً على ذلك يمكن القول إنه لا توجد أي إمكانية لتنفيذ أحكام هذه المحكمة ضد “إسرائيل” في هذه القضية بشكل أو بآخر.

رغم ذلك، تمثل هذه القضية عامل إحراج سياسي كبير لـ”إسرائيل”، نظراً إلى أنها المرة الأولى التي تقام فيها دعوى قضائية ضدها في محكمة العدل الدولية، وهي تأخذ ملف هذه القضية بجدية واضحة، نظراً إلى أن من تتم محاكمته في هذه القضية هو “إسرائيل كدولة”، وليس أفراداً أو مؤسسات، وبالتالي صدور حكم ضدها سيمثل إحراجاً سياسياً وإدانة دولية كبيرة لها في هذه المرحلة، وخصوصاً أنه لا يوجد في هذه المحكمة “حق النقض” الموجود في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى أن الدعوى المقامة من جنوب أفريقيا تستند إلى مجموعة كبيرة من الأدلة، منها تسجيلات مصورة للمعارك في قطاع غزة، وتصريحات أدلى بها مسؤولون من الحكومة الإسرائيلية مدنيون وعسكريون، وأيضاً بعض البرلمانيين والحزبيين الإسرائيليين، تحدّثوا فيها عن ضرورة تهجير سكان قطاع غزة وإبادتهم.

الواضح أن حالة الارتباك التي أصابت “إسرائيل” من هذه الدعوة كانت متشعبة، وهو ما ظهر من الدفوع التي تلاها فريق الدفاع الإسرائيلي خلال الجلسة الثانية الخاصة بهذه القضية يوم الجمعة الماضي، وأكثرها لفتاً للنظر كان الادعاء أن مصر تمنع دخول المساعدات إلى سكان قطاع غزة، رغم أن الواقع الميداني الذي رصدته الأمم المتحدة أشار بوضوح إلى تعمد “إسرائيل” وضع عراقيل عدة أمام إدخال المساعدات المتكدسة في الجانب المصري من معبر رفح، ناهيك بوجود عدة تصريحات من جانب أقطاب سياسية وحكومية إسرائيلية تتحدث صراحة عن منع أي إمدادات غذائية أو وقود أو مياه إلى القطاع.

إجمالاً، يمكن القول إن جنوب أفريقيا تحاول في هذه المرحلة إقناع المحكمة بفرض إجراءات قضائية عاجلة تطبق فيما تنظر في جوهر القضية الذي قد يستغرق سنوات، كما تطالب بتعويضات لإعادة بناء غزة وعودة النازحين الفلسطينيين.

بالنسبة إلى التدابير المؤقتة، فإن المحكمة تحتاج فقط أولاً إلى أن تحدد ما إذا كانت لها الولاية القضائية، وما إذا كانت الأفعال موضع الشكوى يمكن أن تقع ضمن نطاق اتفاقية الإبادة الجماعية. ولا يتطلب الأمر بالضرورة أن تتخذ بعد ذلك التدابير نفسها التي يطلبها صاحب الدعوى.

وعلى الرغم من عدم وجود “إلزام” حقيقي بتنفيذ أحكام هذه المحكمة، وكذا عدم وجود آليات لتطبيق أحكامها، فإن الحُكم الذي قد تُصدره المحكمة الدولية -حتى ولو لم ينفّذ- سيمثل ضربة للتموضع السياسي والدبلوماسي الحالي لـ”إسرائيل”، وسيتسبب في إحراجها دولياً، إلى جانب احتمالات تسببه في تغيير الطريقة التي تتعامل بها دول أخرى مع “إسرائيل”، كأنْ تصبح هذه الدول أقلّ استعداداً لبيعها أسلحة أو التعاون معها سياسياً ودبلوماسياً، وخصوصاً أن الحكم ضد “إسرائيل” في هذه القضية سيعني بالضرورة اتهامها بـ”الإبادة الجماعية”.

لكن من الناحية السياسية، من المتوقع أن تعمل “إسرائيل” على استمالة الأطراف الدولية المختلفة من أجل رفض أي حكم صادر عن المحكمة يدينها والتشكيك فيه وفي صحته. وبناء عليه، فإن تحقيق جنوب أفريقيا نتائج من تحركها الحالي سيكون رهناً بإقناعها المحكمة بإصدار إجراءات قضائية عاجلة ضد “إسرائيل” في المدى القريب، نظراً إلى أن مسار القضية سيتطلب عدة سنوات، كما أن قضاة جدداً في هذه المحكمة سيتم انتخابهم الشهر المقبل.

 

 

 

الاراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن سياسية الموقع، وانما تعبر عن رأي كاتبها كذلك في سياق التضامن المفتوح مع القضية المركزية للأمة ( مظلومية الشعب الفلسطيني)

مقالات ذات صلة