النزوح الإسرائيلي نحو الوسط في التكوين النفسي

إحساس بالأمان يُجمع على افتقاده المستوطن النازح حتى وهو في فندق فاخر، ومعه رئيس أهم بلدية في الشمال، وقبلهما رئيس “الموساد”، في وقت حفر حزب الله، من خارج فلسطين، إحساساً عميقاً بالرعب في النفسية الإسرائيلية.

 

“كونك نازحاً، حتى لو كنت في مكان فاخر، تظل لاجئاً”، قالت المستوطنة الإسرائيلية، ليا رايفيتز، في مقابلة مع “نيويورك تايمز”، في وقت يرى رئيس بلدية “كريات شمونة”، أفيخاي ستيرن، مقاتلي حزب الله عند السياج، فلا يمكن لأحد أن يَعِده بأنه لن يستيقظ في صباح أحد الأيام ليرى ما حدث في مناطق غلاف غزة يتكرر في البلدات عند الحدود اللبنانية الفلسطينية. لذا، هو يحذّر من العودة، ويَعُدّها بعيدة المنال.

هذا التصدّع النفسي العميق في باطن الوعي الإسرائيلي، تجاه جوهر الفكرة الصهيونية بشأن تهجير كل يهود العالم نحو الاستيطان في فلسطين، يعكس نهاية “شرعية الهجرة”، كما أصل الوجود، في وقت تم تفعيل بروتوكول الحرب داخل كيان “الدولة”، التي أُقيمت على أنقاض دول الطوق، لتكون مسرحاً لحروب “إسرائيل” المباشرة، أو حروبها بالوكالة، في أحيان أخرى، لكنها اليوم تنزف شمالاً تبعاً للنزف الغائر جنوباً.

نفسية النزوح الداخلي تحت ضغط الحرب تسيطر على العقل الجمعي لنحو نصف مليون مستوطن من الجنوب والشمال تكدَّسوا في أماكن إيواء موقتة، بحسب المتحدث باسم “الجيش” الإسرائيلي، جوناثان كونريكوس، وبينهم نحو 230 ألف مستوطن من الشمال، بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، تكدّست أغلبيتهم في وسط الكيان في منطقة غوش دان، حيث بدأت ترتسم ملامح الانكماش الإسرائيلي وفق النبوءة الإسرائيلية التراثية بالتحول نحو “دولة تل أبيب”، كيوم تشظّى الوجود الإسرائيلي تاريخياً بين مملكتي يهودا والسامرة المتنازعتين، حتى زوالهما.

وبينما كان رئيس “الموساد” السابق، أفرايم هاليفي، يستذكر كيف نجحت “إسرائيل” في احتواء العقل العربي في سياق نفسي يعظّم “إسرائيل”، ويرى فيها مصدر القوة الوحيد الثابت والمستقر في المنطقة، وهو ما خلق طابوراً عربياً خامساً يعمل مجّاناً، ومن دون أن يدري، من أجل نصرة “إسرائيل” نفسياً، كان رئيس “الموساد” الحالي ناحوم بارنيع، ينظر إلى حال “إسرائيل”، بعد السابع من أكتوبر، ليجدها، بحسَب وصفه، “في حفرة عميقة. ومنذ ذلك اليوم، نحن نقف في قاع الحفرة، ونسأل كثيراً من الأسئلة: إلى أي مدى سقطنا؛ لماذا سقطنا؛ أين العدو الذي أسقطنا، وكيف سندمره؟”.

وهو يرى أن من أهم طرائق الخروج من الحفرة، يكون عبر الإحساس بالأمان لـ”سكان” الجنوب والشمال، والذين نزحوا من بيوتهم.

إحساس بالأمان يُجمع على افتقاده المستوطن النازح حتى وهو في فندق فاخر، ومعه رئيس أهم بلدية في الشمال، كريات شمونة، وقبلهما رئيس “الموساد”، أي المسؤول عن الاستخبارات الخارجية، في وقت حفر حزب الله، من خارج فلسطين، إحساساً عميقاً بالرعب في النفسية الإسرائيلية، جعل “كريات شمونة” بلدة أشباح، ومنع مَن تبقّى شمالاً من أن يجرؤ على دفن قتلاه، إلّا في عتمة الليل، وفي ظل إضاءة الهاتف الخافتة، وهو ما ظهر جلياً بعد مقتل اثنين من المستوطنين في مستوطنة “يوفال”، وخصوصاً أنّ بوابات المستوطنات مقفلة، ولا يمكن الخروج منها، إلا للحالات “الإنسانية” الطارئة، مثل نقل حامل إلى المستشفى للولادة، لكن بعد الحصول على موافقة مسبقة.

حجم الدمار تكشَّفَ أخيراً في مستوطنات الشمال الثلاثين، المحاذية للبنان، وتحديداً المنارة والمطلة، وظهرت أغلبية البيوت مدمَّرة أو متضررة بفعل صواريخ حزب الله، بعد أن راكَمَ أبعاد صلياتها وقدراتها التفجيرية، من المضاد للدروع إلى بركان فالفلق، وأخفى مسمى بعضها، كالصاروخ التلفزيوني أو الماسي، وهو بذلك يوسّع قواعد الاشتباك عبر زحف متتابع، لكنه حثيث وراسخ، حتى أضحى استهداف قاعدة التجسس الكبرى في جبل “ميرون”، على مسافة 10كم، ملطشة دورية، بعد أن كان قصفها لأول مرة مفاجئاً في الرد الأولي على اغتيال القائد صالح العاروري.

نمط الاشتباك، الزاحف اتساعاً في عمق الاستيطان شمالاً، غارَ في عقل الاستيطان العقائدي وأفقده جذريته المزعومة، فبينما يُنظر إلى بعض مستوطنات الشمال انطلاقاً من بعدها العقائدي الأيديولوجي، ويعقد غلاة الصهيونية الدينية مؤتمراً لترويج الاستيطان في غزة، تعلن أغلبية النازحين شمالاً نحو الوسط نيتها المؤكَّدة في الاستقرار في “تل أبيب” وضواحيها، بعد أن اكتشف هؤلاء أنهم في جحيم الشمال ينامون ويصحون على رعب قوة الرضوان، بينما النخبة السياسية الاقتصادية المتنفذة في “الدولة” ترتع في ربيع “تل أبيب” وخدماتها وعالمها المغاير، في “بلد” لا يتجاوز عدد سكانه بضعة ملايين. 

إنه إحساس جديد يتشكل على وقع الطوفان، نحو نفسية تتصدع وتُراكِمُ افتقاد “الشرعية”، في ظل طول أمد النزوح، أو اللجوء الداخلي، على نحو يدفع إلى الانسلاخ الكلي عن “الانتماء الوطني”، وهو انتماء هش في الأساس. لذا، بات الإسرائيليون يتفقّدون جوازاتهم البديلة المكتسبة بحكم جنسياتهم الأصلية القديمة، أو تلك التي حصلوا عليها لاحقاً من أجل استخدامها عند الضرورة، وخصوصاً أن من يخرجون باتوا، في أغلبيتهم، لا يعودون.

هذه النفسية المحطَّمة بشأن عدم الشعور بالاستقرار تعزّز التصدع في عمق العقيدة الصهيونية، التي تقوم على عنصر الإحلال والاستقرار وتشجيع الهجرة المكثفة إلى “أرض الميعاد” المزعومة، مع العلم بأن نحو مليون مستوطن، ممن يحملون جوازات سفر إسرائيلية، يقيمون بصورة دائمة تقريباً في عدة دول، ولا يرغبون في العودة إلى “إسرائيل”، وكان 33% من الإسرائيليين عبّروا في الأساس عن رغبتهم في الهجرة الدائمة بعد صعود اليمين المتطرف قبل عامين.

جاء النزوح الكلي لمستوطني غلاف غزة، بعد طوفان الأقصى، تبعاً لواقع إجباري صادم، لكن نزوح مستوطني الشمال، على وقع الاشتباك المتصاعد مع حزب الله، للشهر الرابع على التوالي، في ظل فشل التهديدات الإسرائيلية، ومعها المحاولات الأميركية والفرنسية والألمانية لاحتواء هذه المواجهات، مع إصرار حزب الله الصارم على ربطها المبدئي بالحرب على غزة، خلق واقعاً جديداً أمام هؤلاء المستوطنين، الذين تكرّس في وعيهم شعورٌ جديد، لن تفلح معه كل هرطقات الصهيونية الدينية على تبديده، في وقت يبدو الانسداد سيد الموقف في كل الخيارات الإسرائيلية السياسية والعسكرية.

مستوطنات الشمال ليست مستوطنة “ياميت” المخلاة من سيناء عام 1982، ولا “نتسارين” و”غوش قطيف” ووسائر مستوطنات غزة المخلاة عام 2005، ومعها مستوطنة “حومش” وعدد من المستوطنات قرب جنين. مستوطنات الشمال، المقامة منذ عام 1948، مع “تأسيس” الكيان الإسرائيلي، إذ يتم إخلاؤها في ظل حزام أمني لبناني عكسي يتشكل في عمقها ويترسخ واقعاً، فإن هذا الإخلاء، حتى لو ظهر في طابع موقّت، فإنه يغور في أساسات هذا الكيان ليطال لحظة التأسيس التاريخية ذاتها

 

الميادين نت

مقالات ذات صلة